علي الصراف يكتب:
تجارة المخدرات الفلسطينية
يضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شروطا على الفلسطينيين، لا تنسف عملية السلام، ولا أبسط مقومات “حل الدولتين” فحسب، ولكنها تنسف الوجود والهوية الفلسطينيين أيضا.
قال لصحيفة “إسرائيل هيوم” أخيرا، “لسنا نحن المطالبين بالتنازل، وإنما الفلسطينيون، ولن تتواصل العملية إلا إذا استوفوا عشرة شروط صعبة تشمل سيادة إسرائيلية في المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن، القدس موحدة، عدم السماح بعودة أي لاجئ، عدم اقتلاع المستوطنات، سيادة إسرائيلية في مناطق واسعة في الضفة الغربية. وعليهم الاعتراف بأننا الحاكم الأمني للمنطقة كلها، وإذا ما وافقوا على كل ذلك، فسيكون لهم كيان خاص بهم يمكن وصفه دولة”.
ويجب ألا يستغرب أحد، لا من هذه الشروط ولا مما هو أشد منها. الاحتلال احتلال في النهاية، ويمكن أن يفعل ما يشاء.
القول إن إسرائيل تتصرف بمنطق القوة صحيح. ولكن الأصح منه هو أن الفلسطينيين يتصرفون بمنطق الضعف. والعلة إنما تكمن هنا.
كل الدول الاستعمارية كانت قوية حيال من تستعمرهم. وهي تسحق وتدمر وتقتل وتعتقل وترتكب جرائم وحشية، وتفرض قوانينها وخياراتها السياسية على النحو الذي تراه ملائما لمصالحها.
هذا كله بديهي. ولا أحد يعرف كيف له ألا يكون كذلك.
ليس من المناسب، على الإطلاق، النظر إلى أي قوة احتلال من زاوية أخلاقية. ليس من المنطقي أيضا التعويل على أخلاقيات في المواجهة مع قوة احتلال. لا الفرنسيون ولا البريطانيون ولا الأميركان كانوا يفهمون هذه اللغة عندما كانوا يرتكبون جرائمهم. ولا يستطيع المرء أن يفهم لماذا يتعين على الإسرائيليين أن يكونوا غير ذلك؟
حتى الذهاب لملاحقة جرائم إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية، لا قيمة حقيقية فيه. الأخلاقيات ليست قوة، من وجهة نظر العلاقات الدولية. ولا هي سلاح مفيد من الناحية العملية. وفي النهاية فإن القفز من فوقها ممكن دائما. وبالنسبة لكيان تدرب على الجريمة وأتقنها، على امتداد وجوده كله، فقد أصبحت “نمط حياة”.
لا معنى لإسرائيل من دون اغتصاب أراض. كما لا معنى لوجود المستوطنات في الأراضي الفلسطينية من دون قهر وتشريد وتدمير. كما لا معنى للدولة نفسها من دون تمييز عنصري وجرائم جماعية.
هذا هو تاريخ إسرائيل. ويحسن بالعاقل ألا يأمل بأي شيء آخر. وألا يتعامل مع هذا الكيان إلا بوصفه قوة قهر وجريمة. وألا ينخدع بمجادلات أخلاقية تنشرها بعض صحف إسرائيل، أو يخوضها إسرائيليون “أخلاقيون” أو “يساريون”. هذا هراء، لا يغني من فقر ولا يُسمن من جوع. وهو على أي حال، لم يغير شيئا. ويجب الكف عنه. إنه نوع من تعاطي مخدرات، لا يصحو منه المرء إلا على واقع أشد إيلاما وسوءا.
القول إن الفلسطينيين ضعفاء، ومحاصرون، ومعزولون ولا يتلقون دعما، هراء آخر. إنه نوع ثان من المخدرات التي يجب الكف عن تعاطيها.
ولو توقفت تجارة المخدرات الفلسطينية عن بيع حبوب الهلوسة السلمية، فان الموازين سوف تتغير.
لا يوجد ضعف. ولكن هناك شعور بالضعف، وسياسات قائمة على هذا الشعور.
يستطيع الفلسطيني أن يقاتل. يستطيع أن يحتج. يستطيع أن يخرب. يستطيع أن يبتدع أشكالا من المقاومة تحول حياة الاحتلال إلى جحيم دائم. يستطيع أن يقطع خطوط اتصالات وأسلاك كهرباء ويلقي مسامير على الطرق وحجارة على الرؤوس. كما يستطيع أن يموت في المواجهة. وما من شيء في ذلك بغريب على شيبهم ولا شبانهم.
القيود التي تضعها “سياسات ترويج الضعف” يجب أن تتوقف. كما يجب أن يتوقف ليس التنسيق الأمني وحده، بل يجب إلقاء كل سلاح تملك إسرائيل رقمه وسجلاته وأسماء حامليه.
هل تريد إسرائيل أن تحتل المزيد من الأراضي؟ ما هي المشكلة في ذلك؟ ما هو الشيء الغريب؟ ألم تتأسس هذه الجريمة على جريمة سابقة؟ ألم تكن الجريمة هي حجر الأساس لقيام دولة إسرائيل؟ إذن ما هو الغريب لو قررت إسرائيل أن تحتل أي قطعة أرض إضافية؟ ما الذي يمنعها من أن تحرم الفلسطيني من لقمة عيشه؟ أو أن تسن له قوانين عنصرية؟
هناك شيء واحد فقط يمكنه أن يمنع: أن يعود الفلسطيني ليشعر بوجوده، وبقوته، وبقدرته على إملاء هذه القوة على الاحتلال. وعندما لا يفعل، فلا مبرر للشكوى ولا العويل.
الإسرائيليون يعيشون مع الفلسطينيين في شهر عسل طويل جدا، قائم على الاغتصاب. ولقد حان الوقت للتمرد. حان الوقت لفوضى عارمة تخرب كل شيء، وتجعل الإسرائيلي يفهم أنه يعيش على أرض ملغومة.
كل شكل من أشكال المقاومة بالنسبة لأي قوة احتلال هو إرهاب. هذا هو التاريخ كله. لم يظهر على سطح الأرض محتل إلا ونظر إلى مقاومته على أنها إرهاب. الإسرائيليون طوروا الفكرة وذهبوا بها إلى أبعد فأبعد. حتى بات من المستحيل على الفلسطيني، أو أي أحد، أن يفتح فمه من دون أن يوصم بالإرهاب أو بالترويج للإرهاب. هذه مخدرات ثقافية أخرى ويجب التوقف عن تعاطيها. بل ويحسن بالفلسطينيين أن يتعاملوا مع مروجيها على أنهم هم الإرهابيون الذين يرهبون الناس بثقافة الاحتلال ليجبروا شعبهم على الذل والخنوع.
الجزائريون الذين حاربوا الاستعمار الفرنسي، كانوا إرهابيين. ومثلهم كان كل الذين قاوموا الغزاة، في أركان الأرض الأربعة. نيلسون مانديلا كان شيخ الإرهابيين، وسقط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وظلت الحكومة البريطانية تعتبره إرهابيا. وأحسب أنه ما يزال بحسب الوثائق الحكومية البريطانية إرهابيا، ربما حتى الساعة.
هذه ليست عنتريات كلامية. الفلسطينيون لم يكونوا إلا إرهابيين في عرف إسرائيل، من قبل أن يحملوا السلاح، ومن بعد ما حملوه، ومن بعد ما عادوا فألقوه.
شهر العسل يحسن أن ينتهي. ويحسن أن تنقلب ثقافة الضعف، ومعها ثقافة الخوف من الإرهاب. وأن تتوقف تجارة المخدرات الثقافية التي تتداول أخلاقيات، أو تراهن عليها، أو ترهب الضحايا من فكرة المقاومة بكل الوسائل، بما فيها حمل السلاح. طاولة ثقافة الضعف يحسن أن تنقلب، وليكن ما يكون. وهل هناك أسوأ مما هو كائن الآن في الأصل؟ أو مما تنوي إسرائيل أن تذهب إليه؟
عندما كان الجزائريون يقاومون الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، هل كانوا يشعرون بالضعف؟ على الإطلاق، لا. الفرنسيون كانوا هم الذين تنتابهم مشاعر الضعف، فهُزموا.
الضعف، واللغة المسالمة، والخوف من تهمة الإرهاب، والخشية من التصعيد، جزء من تجارة المخدرات الثقافية التي جعلت شهر العسل الإسرائيلي طويلا جدا.
عندما يتبنى الفلسطينيون ثقافة مضادة لا تخشى الاتهام بـ”الإرهاب” وتمنع ترويج مخدرات الخوف، وعندما تتحول مواجهة الجريمة إلى نمط حياة مضاد، فلن يعود بوسع نتنياهو أن يفرض شروطا كتلك الشروط.
سوى أننا نحن الذين نشجعه على ذلك، في واقع أشبه بضحية من ضحايا الاغتصاب، تظل تولول، ولكن لا تمانع لمغتصبها أن يعود ليغتصبها من جديد.
هذه هي الثقافة السائدة في الأراضي الفلسطينية المغتصبة. وهي ذاتها ثقافة ذلك الشيء الذي يسخر نتنياهو من تسميته “دولة”.