محمد أبوالفضل يكتب:
أغنياء كورونا أخطر من أغنياء الحرب
عرفت دول كثيرة أغنياء الحرب الذين يستفيدون من اشتعال المعارك في أماكن مختلفة، ويحصدون مكاسب كبيرة كلما اشتعلت النيران، من الأفراد والجماعات، والدول والشركات، وهي ظاهرة ليست وليدة اليوم، بل تمتد جذورها لقرون طويل، منذ ظهرت الحروب في أشكالها البدائية، وزادت الفوائد مع التطورات التي دخلت عليها، والوسائل التي تستخدمها في حالتي الدفاع والهجوم، التي تلعب دورا مهما في تغذيتها.
لم تنته هذه المسألة، ودخلت عليها ظواهر أخرى تدور في السياق نفسه، ولحقت بمجالات متباينة، بعضها واضح ومعروف في العناوين، وغالبيتها تلتحف بأدوات خفية ومجهولة، بينها المغانم التي تحصدها شركات الأدوية العالمية مع اتساع رقعة الأمراض وانتشار الأوبئة، وهي تجارة سخية تسيطر على جزء معتبر من الاقتصاد الدولي، مع تنوع فروعها وتعدد القنوات التي تعمل من خلالها، تنوعت وتعددت أرباحها.
حظيت القضايا المتعلقة بأغنياء الحرب والأدوية وكل ما له علاقة بالتركيبة غير المشروعة للمغانم باهتمام كبير من قبل، وجرى تسليط الأضواء على جوانبها الأخلاقية، ويستطيع أي إنسان بضغطة زر على محرك البحث “غوغل” التعرف على الكثير من تفاصيل العمل في هذه المجالات، ويتحصل على معلومات ويتعرف على أسرار تكشف له عوالم مليئة بالحكايات التي تصب في اتجاه الاستثمار في الأوجاع.
جاء فايروس كورونا وما صاحبه من صدمات ومفاجآت، وقيل في بداياته إن العالم فهم الرسالة، على القوى المفترية، دولا وأفرادا، أن تتعظ من المحنة ودروسها، وتستفيد من عبرها، فالجائحة التي انطلقت من مكان ما، لا أحد يعلم قطعيا هل هو ووهان في الصين أم لا، قد تحمل معها نسمات تعاون، ورغبة عارمة في التكاتف ونبذ الهيمنة والتسلط والتخلي عن الكثير من أنواع القوة الغاشمة المادية والمعنوية، في مقدمتها وقف المتاجرة بآلام الناس وأمراضهم، وكل ما له علاقة بتحقيق مكاسب على حساب الآخرين.
تقول المؤشرات التي ظهرت في الأيام التالية للمحنة، إن أزمة كورونا لم تردع أو توقف أحدا عن ارتكاب الجرائم المعروفة عن البشر، وأبرزها توظيفها في جني أرباح باهظة، وبدت ليست كافية لتقديم العبر، فقد راحت السكرة التي صاحبتها في البدايات، وظهرت الفكرة عقب استيعاب الصدمة، وعاد العالم إلى شواغله، الكل يحاول تعظيم الاستفادة وتقليل الخسائر، والنيل من الآخرين بأي وسيلة، دون مراعاة لانعكاسات السلوك السلبي على من حوله، فالمهم زيادة الغلة من وراء الأزمة.
صوب كورونا مدافعه نحو أعز ما يملك الإنسان، وهو صحته، ولا أحد يعلم متى وأين وكيف ولماذا يضرب ضربته، وبدا التأثر شديدا بما يتناسب مع حجم الفاجعة وما خلفته من تداعيات، حيث فرضت على كل دول العالم تغيير جداول أعمالها، والبحث عن السبل الناجعة لتخطيها أو تخفيف مخاطرها، وإيجاد المخارج المناسبة لعبورها في حدود الإمكانيات والقدرات.
تفاوتت آليات التعامل مع كورونا، وكل دولة بدأت تتصرف وفقا لرؤيتها الصحية وحساباتها الاقتصادية، وتشابك الجانبان في نواحي كثيرة، ودخلت على خطوطهما مكونات سياسية وأمنية واجتماعية أملا في تجاوز تحديات أزمة قرر الجميع التعايش معها قسريا وتحمل تكاليفها، طالما أن الحل لم يظهر بعد، وقد يستغرق وقتا طويلا.
تطلب التعايش توفير مستلزمات طبية وصحية. باختصار بيئة ملائمة للتكيف مع الأزمة، وهو ما يحتاج إلى توفير إمكانيات تسمح بالتعايش لفترة يصعب توقع نهايتها، بينها الكمامات والقفازات، ناهيك عن متطلبات الطواقم الطبية للحماية، والمعدات اللازمة للكشف والمتابعة، من أجهزة تنفس صناعي وأدوات لإجراء المسحات والكشف عن الفايروس، وغيرها.
ظهرت المتاجرة في أجلى صورها، وأخذت شكلا سياسيا ومعنويا ورمزيا عبر الطائرات والسفن التي تدفقت من دول الوفرة إلى الندرة، وهي محملة بالمعدات الطبية، خفتت هذه الدبلوماسية، وظهرت مكانها المتاجرة على المستوى الفردي والجماعي، التي تبدأ من صراع شركات الأدوية العملاقة على التوصل إلى اللقاحات والمضادات لتعالج المرض وحتى صناعة الكمامات، مرورا بالمعدات الطبية الباهظة.
خرجت القصة من إطار المجاملات وتعزيز العلاقات وتحويل الفائض إلى دول العجز، ودخلت في مربع الحرب على توابع كورونا الاقتصادية، بدأت تستعر معالمها بين شركات عابرة للحدود، كل منها تحاول قطم جزء كبير من كعكة الفايروس المجهول، والذي لم تقطع الدراسات والأبحاث وأجهزة الاستخبارات ما إذا كان جاء من محور الطبيعة أم مخلقا.
بعيدا عن التأطير العلمي والجدل النظري الدائر حول هذه الإشكالية، فإن أغنياء كورونا المحتملين من دول وشركات وأفراد، وكل من يلف لفهم، يخوضون معارك ضارية لتحويل الفايروس المدمر إلى مدخل جديد يزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا. هي معادلة قديمة تتجدد مع الأزمات والحروب، وكل جهة تعرف ماذا تريد من أهداف وكيف تحققها من أقصر طريق.
يبدو رصد الظاهرة على المستوى الكبير (الماكرو) جليا، وخبره كثيرون وعرفوا الأطراف الرئيسية والفاعلة فيه من دول وشركات وجماعات ضغط، وهي عملية ممتدة تدور حولها حروب مباشرة وبالوكالة، وكورونا لن يكون أول أو آخر ملامحها، بينما يظل رصد الظاهرة على المستوى الصغير (المايكرو) كاشفا لحجم ما يعتمل من تطورات اقتصادية ومجتمعية.
عندما قررت الدول فرض استخدام الكمامة حفاظا على صحة المواطنين انتعشت بورصة المتاجرة في هذه البضاعة، وحولت الكثير من المصانع خطوط إنتاج الملابس إلى تقديم هذه السلعة الضرورية التي أصبحت فرض عين على الناس، يتعرض المخالفون في بعض الدول إلى غرامات مالية كبيرة، وتتفاوت أسعارها من بلد لآخر، ومن مدينة لأخرى.
من الطبيعي رواج تجارة الكمامات والمستلزمات الطبية، لكن ليس عاديا أن الغش في المواصفات الطبية أو تقديمها بصورة لا تصلح للاستخدام الآدمي، فأغنياء الحروب لا يستطيعون تقديم أسلحة مغشوشة، تضرب في اتجاه صاحبها بدلا من العدو، في حين أن تجار كورونا فعلوها في دول كثيرة، لأنهم يريدون تحقيق أرباح، يأملون استمرار المرض كأنهم يشيرون إلى حتمية التأقلم مع الفايروس مدى الحياة.
بغض النظر عن الوازع المادي الذي دفع هؤلاء لهذا النوع من السلوك، فهو يؤكد أن أغنياء كورونا صاروا أخطر من أغنياء الحروب. عندما يرتبط الأمر بصحة الإنسان من الواجب أن تكون هناك وقفة، لأن تصرف الكمامات المغشوشة جزء من تصرف أعم سوف يعاني منه العالم على يد من استثمروا في كوفيد – 19، وحولوه من محنة صحية إلى منحة اقتصادية، وربما هبة إستراتيجية يعيدون بها تشكيل العالم.