كرم نعمة يكتب:
بيوتنا لن تقبلنا موظفين فيها
الكلام المغالي بأن لا مستقبل للمكاتب كي نعود إليها بعد انتهاء جائحة كورونا، يتجاهل عن قصد أن لا إحساس بالعمل إن لم نكن نتواجد في مكتب، المنزل مكان مناسب لإنجاز بعض الأعمال لكنه ليس بيئة صالحة بشكل دائم للعمل، مواصفات المنزل التي حددها منظر جماليات المكان غاستون باشلار، بوصفه المكان الذي يجب أن يقبلنا عندما نذهب إليه، لا يمكن أن يقبلنا بشكل دائم عندما نتخذه مكانا دائما للعمل، لأنه عند ذاك سيكون سببا للاكتئاب القسري.
أنا أمتلك تجربة عمل من المنزل على مدار عشرين عاما، لكنني لا أفرط في الذهاب إلى المكتب يوميا كما لا أؤمن بوفاته دماغيا بعد انتهاء الحجر الصحي، تولّد لدي هذا الشعور بألا يكون لديك مكتب عمل يعني إحساسك بالعمل ليس مكتملا. صحيح أن البيت يوفر عليك جهدا لوجستيا، لكن يكفي أن تتأمل نفسك وأنت تعمل من داخل المنزل بملابس النوم! البيئة التي يوفرها المكتب لا يمكن أن يضطلع بها المنزل، صحيح أيضا أن المكاتب تحوي زملاء مثيرين للاشمئزاز أو متطفلين أو متعبين، لكنها أيضا تحوي نمطا آخر من الأكفاء والمثاليين الذين يساعدون على العمل.
التعامل مع المتطفلين والأكفاء معا يجعل نسق العمل يصبو إلى المثالية في معالجة الضعف، بعكس الشعور الذي يكتنف العاملين من المنزل، سيصبح البيت مكانا للتوحد عندما يحوّل إلى مكتب، ويلغي وظيفته التاريخية كمكان للاسترخاء الحميمي والألفة الأسرية.
يتحدث غاي شوجرمان، الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات الأميركية الكبرى، بحماسة عن فضائل مكان العمل المشترك، ويقول لصحيفة فايننشيال تايمز إن “بيئة العمل اليومية والتفاعل اليومي والطاقة الاجتماعية الناشئة تجعل العمل في الشركة جزءا لا يتجزأ من سبب رغبتك في الاستيقاظ كل يوم وبذل أقصى جهدك، وهو أمر لا يمكنك تكراره بالعمل من المنزل”.
هذا الكلام السوي لا يروق لأصحاب الشركات الكبرى الذين يفكرون بتحويل محافظهم العقارية إلى مواضع لاستثمارات جديدة، لِمَ لا والجميع قادر على التواصل من المنزل.
بل إن جيس ستيي، أحد كبار المدراء في بنك باركليز، يرى أن “فكرة وضع سبعة آلاف شخص في مبنى قد تكون شيئا من الماضي”. وفي رأي متطرف آخر من شركة مونديليز الأميركية متعددة الجنسيات يقول “ربما لا نحتاج إلى جميع المكاتب التي لدينا حاليا في جميع أنحاء العالم”.
قد يبدو هذا الكلام للوهلة الأولى واقعيا، ما دام الحجر الصحي مستمرا، وقد يفكر به كثيرا أصحاب رؤوس الأموال ما بعد الجائحة لتوفير التكاليف.
لكن طبيعة الإنسان نفسه ستصاب بالنفور من استمرار العمل من المنزل، وتتراجع إنتاجيته وتخفت لديه الأفكار والمبادرات، وسيفرط في الاعتناء بنفسه وهندامه، يكفي أنه لن يحلق ذقنه بنفس الشروط التي كان يفرضها على نفسه عند التوجه للعمل. وهذا إحساس مختلف كليا عما إذا كان قد حلق ولو على مضض. الإحباط قادم إذا بقينا ندور وحدنا على أجهزتنا سواء وضعت على طاولة غرفة المعيشة أو المطبخ، لأننا في حقيقة الأمر لا نعمل بنفس الجودة التي نكون فيها ضمن فريق متكامل في المكتب.