محمد أبوالفضل يكتب:

البعد التركي في علاقة قطر بمصر

تحرص مصر دوما على تطويق خلافاتها السياسية مع الدول العربية باللّين، وتمنح أولوية لحلها داخل الإطار الثنائي، غير أن هذه القاعدة تتراجع كثيرا عندما تستدعي هذه الدولة أو تلك طرفا له أطماع إقليمية، وتستقوي به أو تتخذه تكئة للتصعيد والتخريب. لم تطرأ تغيرات سلبية على علاقة مصر مع العراق، إلا بعد أن سلّم مقاديره السياسية والأمنية والاقتصادية لإيران، وبدأت تتحسن مع تخفيف قبضتها. وتدهورت العلاقة مع ليبيا عقب التدخل التركي السافر.

هكذا الحال مع قطر، كان من الممكن حل خلافها المزمن مع مصر لو حرصت على الحوار الثنائي، أو حصره داخل البيت العربي، ولم تلجأ إلى تركيا التي تتحين الفرصة لتشبيك خيوطها في المنطقة، ووفرت لها الأجواء المناسبة لزيادة التعقيدات، ما حال دون تسوية العديد من القضايا السياسية مع القاهرة، فلم تكتف الدوحة بدعم التنظيمات المتشددة والإرهابية، بل احتمت بأنقرة كراعية لها، من مصلحتها تفكيك العلاقات العربية.

بدأت الأزمة مع قطر منذ ارتضت بتحويل دفتها نحو احتضان القوى الإسلامية بألوانها وأطيافها المختلفة، قبل الحديث عن ثورات الربيع العربي وتنامي دور تركيا التي قامت باستدارة كبيرة نحو المنطقة لجني المكاسب.

ظلت علاقات الدوحة مع القاهرة تتصاعد حينا وتخفت أحيانا، ومضت على هذه الوتيرة فترة من الزمن، حتى دخلت تركيا على هذا الخط بوضوح، ونجحت في استقطابها إلى جانبها لهدم الدولة المصرية التي تمثل عقبة كأداء في طريق هيمنة أنقرة على المفاصل العربية.

استقبلت الدوحة إشارات سياسية وأمنية متعددة من القاهرة تفيد بالعتب وتحضها على رفع يديها عن القوى المتطرفة، وفي كل مرة تبدو مستوعبة للمعاني التي تنطوي عليها الرسائل يعود خطابها الإعلامي للتمسك بموقفه الداعم للإخوان وكل من يلفون حول ومع الجماعة بسبب الرفض التركي لأي توجه إيجابي مثمر نحو القاهرة، إلى أن تمكنت أنقرة من تحقيق أغراضها وقطعت خط الرجعة القطرية مع مصر.

جرت محاولات كثيرة لتعريفها بأبعاد ومخاطر الدور التركي، والتهديدات التي ينطوي عليها، لكن بدا موقف قطر محسوما، يميل نحو خطة تتبناها قيادتها لزعزعة الاستقرار في المنطقة، واختارت أن تصبح رأس الحربة في التوترات، والانحياز إلى القوى الهدامة، وتوثيق العلاقات مع الجهات التي تملك أطماعا إقليمية، وتهيئة المجال أمام السلطان العثماني الجديد.

استغلت أنقرة تصورات الدوحة المؤيدة للحركات الإسلامية ومضتا جنبا إلى جنب في تبني خطوات مشتركة في ليبيا والصومال والسودان والعراق وسوريا وصولا إلى مصر، وقطعت قطر مسافات كبيرة جريا وراء تركيا، وهي تعتقد أن ذلك يأتي في سياق تحالف إستراتيجي بينهما، بينما أنقرة ترى أنه يصب في صلب أهدافها للتغلغل داخل المنطقة العربية.

تعتبر الدوحة إحدى الركائز التي تعتمد عليها أنقرة، لكن ليست شريكا أساسيا، لأن التصرفات القطرية تختلف عن نظيرتها التركية، فالأولى تبحث عن دور يجعلها لاعبا أساسيا، بينما الثانية تملك مشروعا له مكونات عقائدية بعيدة المدى، ما أن تشعر بتثبيت أقدامه ربما تكون قطر أول ضحاياه، فهي ممر تعبر من خلاله أنقرة لمنطقة الخليج وما حولها، وتستفيد من خبرتها الطويلة في احتضان الجماعات الإسلامية شرقا وغربا.

لعب الارتباط الوثيق بتركيا دورا حيويا في تحجيم المرونة المصرية مع قطر، وجعلها أشد صرامة في التعامل معها، لأنها رهنت قرارها بإرادة أنقرة التي تريد الاحتفاظ بها كخنجر في خاصرة كل دولة عربية، وفي مقدمتها مصر، وبدت القنوات السياسية والإعلامية مفتوحة على مصراعيها، ولم تتوقف تنقلات قيادات وكوادر التنظيمات الإسلامية بين الدوحة وإسطنبول.

أسهمت التجارب المتباينة في جذب جزء معتبر من مركز الثقل القطري إلى تركيا، في سياق توزيع الأدوار بينهما، واتخذت أشكالا عدة، لكنها عزفت سيمفونية واحدة عنوانها تكسير جدران الدولة المصرية، ينطلق بوق قطر المعروف بالجزيرة، بالتزامن مع أبواق مكملين والشرق ووطن وغيرهم، ويصدح هؤلاء من تركيا باتجاه القاهرة.

باتت الدوحة تابعة لأنقرة في كثير من التوجهات والمماراسات ورسم الخرائط، ما أضعف حجة تيار مصري رأى ضرورة في عدم ترك قطر بمفردها غنيمة في يد تركيا، وأراد استردادها بشتى الطرق، لأنها ستدخل نفقا مظلما لن تعرف كيف تخرج منه، فرهن مقاديرها السياسية والاقتصادية والعسكرية يحولها لبطة عربية عرجاء، حتى لو سقط نظام أردوغان.

فقد هذا التيار ثقته في عودة قطر وتصحيح علاقاتها مع مصر عندما رفضت قيادتها الاستماع لكل أنواع النصائح والتحذيرات، وفضلت المضي قدما في الطريق التركي، الأمر الذي منح فرصة لتيار تعرية الدور القطري أمام العالم وكشف حجم التعاون والتنسيق مع التنظيمات الإرهابية وطبيعة التواطؤ التركي.

كانت فضيحة دعم الإرهاب التي عرضتها دول الرباعي العربي (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) مدوّية، وهزت صورة القيادة القطرية أمام شعبها والعالم، حيث وضعتها بجوار المتطرفين والإرهابيين في مربع واحد، ربما لم تردعها الأزمة، لكن جعلتها أقل مباشرة في دعمها، أو تتصرف من خلال القنوات التركية، وتبحث عن الأدوار ذات الصبغة الإنسانية لتغيير الصورة النمطية، والإيحاء بأنها تستثمر في الحركات الإسلامية لفك أسر الرهائن.

أخفقت محاولات القاهرة الحثيثة في إبعاد الدوحة عن أنقرة، وتيقنت أن تبعية الأولى للثانية يصعب فك أواصرها بسهولة، يكفي الإصرار على تبني رؤية واحدة حتى الآن، فلم يتأثر الخطاب القطري بحجم التغيرات الهائلة في مصر، ويساير تركيا في كل تحركاتها السلبية، اُنظر إلى الموقف من غاز شرق البحر المتوسط، أو الأزمة الليبية أو السورية، ستجد تطابقا.

تتعامل قطر مع كل هذه الأزمات من وجهة نظر أنقرة، ولم تمنح نفسها فرصة للتفكير في التفاصيل، أو تمعن في مواقف الدول الأخرى الرافضة للتصرفات التي تقوم بها في المنطقة.

ألغى التأييد المستمر الشخصية القطرية، وأصبحت معبرة عن لسان تركيا على الدوام، متجاهلة للمصالح الوطنية، ولذلك لم تجد القاهرة بابا للدخول منه إلى الدوحة، حيث أغلقت أبوابها ونوافذها على أنقرة، والتي صارت متحكمة في الهواء الذي يدخل أو يخرج منها.

وضعت قطر مصيرها في يد تركيا، وفقدت مصر ثقتها في عودتها للحاضنة العربية، وإذا لم تدرك الدوحة خطأ هذه السياسة تكون قيادتها حكمت عليها بالخروج ضمنيا من الدائرة العربية، لأن كل الجهات التي ارتبطت بتركيا كانت عبارة عن قوى سياسية أو حزبية أو مسلحة، إلا قطر فقد رهنت الدولة برمتها مستقبلها بها، بالتالي فالسقوط سيكون مدويا.