د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

عدن وحديث الذكريات وأيام الزمن الجميل (الحلقة الأولى)

الكتابة عن الماضي هي امتداد للحاضر.. الفرق الوحيد بينهما قد يكون هو حنين الإنسان لماضيه أكثر من واقعه الحالي وخاصة عندما تتقدم به السن ويحن إلى أيام شبابه وذكرياته ومن حب الناس للماضي يطلقون عليه "الزمن الجميل" وقد يكون هؤلاء الناس على حق في هذه التسمية عندما نقارن بين سهولة الحياة وبساطتها زمان وتعقيداتها اليوم وخاصة المخاض العسير الذي مرت ولا زالت تمر به بلادنا الجنوب العربي من حروب ودماء وكراهية !!
وعندما نرصد الفرق في السلوك والمعاملة بين الأمس واليوم نجد كل شيء قد اختلف جذريا في التراحم والتآلف والترابط الاجتماعي والبساطة والعلاقات الإنسانية ولا أدري هل السبب هو الناس وجشعهم ومطامعهم وسؤ نياتهم تجاه بعضهم؟ أم السبب هو الصراع على المصالح المادية ؟!!
أم السبب عصر السرعة و ضريبة التقنية والتكنولوجيا التي قفزت قفزات هائلة في إل50 سنة الأخيرة أم ماذا؟
علما أن وضعنا المعيشي والاجتماعي في الستينات كان هو الأفضل عندما كانت أحلامنا تعانق السماء وطموحاتنا لا حد لها في المستقبل وتبخر ذلك كله مع ما يجري اليوم من حروب وكراهية تحت مسميات " الوحدة" التي دمرت الجنوب واليمن معا رغم أننا كنا نحلم بمستقبل أفضل في تلك الأيام ولكن حصل العكس تماما حتى في المعاملات اليومية بين الناس وهذا هو الفرق بين الحلم والواقع !‍!
ومن الطرائف التي تناولت هذا الموضوع شاهدت رسما كاريكاتوريا في إحدى الصحف التي نقلت المشهد: شخص واقف أمام باب فيلا صديقه الذي لم يره منذ زمن طويل فقرر زيارته وضغط على جرس الباب، وجاءه الصوت من الداخل
- نعم .. من على الباب؟
- أنا حسين .. محمد موجود؟
- نعم.. أنا محمد.. كيف حالك يا حسين..؟ والله زمان يا شيخ ما شفناك .. أخبارك؟
- الحمد لله أنا بخير .. كيف أحوالك؟
- الحمد لله .. يا حسين أنا مشغول أعذرني وبعد قليل طالع عندي مشاوير..نشوفك مرة ثانية .. لا تنسى ..سلم على الأصدقاء .. نشوفك مع السلامة!!!
وانصرف حسين دون أن يسلم على صديقه محمد..أو يراه!!
هذا مشهد ساخر لتردي علاقات الناس مع بعضها البعض.. في عصر التكنولوجيا ووقع الحياة السريعة !!
ومن السلبيات في الزمن الحاضر تراجع العلاقات بين الناس.. فتجد مثلا عمارة تسكنها عدة عائلات ..والجار لا يسأل عن جاره.. لا يزوره.. لا يعرفه.. يسافر.. يمرض ..الخ ولا يعرف عنه شيئا!!!
إذن الكتابة عن الماضي وذكرياته ليست مجرد اجترار لأيام خاليه ولت.. وإنما استعراض لسلوكيات ومعاملات إنسانيه كانت سائدة في مجتمعات الأمس.. نادرا ما نجدها اليوم في تعاملاتنا مع بعضنا البعض..بل أكاد أجزم أنها قد اختفت وقد افتقدناها في حياتنا اليوم.. فما هو السبب في ذلك؟!!!
لعلنا نجد المواساة لما يجري من تحولات جذرية في حياتنا باسترجاع شريط الذاكرة للأيام الخوالي التي مرت في حياتنا
وتعود بنا الذكريات لسنوات العز في الستينات والسبعينات التي عشناها في بلادنا وخاصة عدن عاصمة الجنوب العربي و كانت أجمل ذكريات عاشها الناس في ذلك الزمن الجميل!!
ونبدأ بشريط الذكريات عن أهم الملامح التي اختزنتها الذاكرة

في الستينات كنت مع مجموعة من زملائي الطلبة في مدرسة زنجبار الوسطى – أبين ..نقوم برحلة كل شهر إلى عدن لزيارة أقاربنا العاملين هناك في عدة مجالات وكنا ننطلق نهاية دوام يوم الخميس الساعة 12 ظهرا، ونتوجه إلى سوق زنجبار القريب من مدرستنا سيرا على الأقدام ثم نركب في سيارات أجرة على حسابنا الخاص من نوع جيب لاندروفر، لا يوجد أسفلت في ذلك الوقت من زنجبار حتى نصل "الكود" ثم تنزل السيارة على شاطئ بحر العرب، والبعض منا واقف أو جالس في السيارة ونسمات البحر تنعشنا حتى في حر الصيف، ومنظر الموج الأبيض – الأزرق يرتفع من عرض البحر ثم يتكسر على الشاطئ بينما سيارتنا تنهب الأرض مسرعة..وبعد حوالي ساعة نقترب من مركز العلم بوابة سلطنة الفضلي من وإلى عدن وفيه مركز الشرطة..نمر عبر البوابة ثم نخرج منها بعد السؤال عن الركاب.. لا يوحد معنا هويات وطنية ولا جوازات .. ولا أوراق ثبوتية كانت كلمة المواطن صدق وشرف شكلا ومضمونا ولا أحد يسألك من أنت؟! طالما سحنتك وهيئتك "جنوبي" لا فرق من الفضلي من المهرة.. من حضرموت.. من العوالق من أي مدينة في الجنوب أنت مرحب بك في بلدك ..حيثما رحلت وأينما حللت.. .. انه شعور يملأ كيانك بالأمن والطمأنينة والسلام ّوالفخر ونحن نشاهد من مركز العلم جبل شمسان الأشم .
ونترجل من السيارة التي تقلنا حسب وجهة كل واحد فينا ..وأنا أنزل عادة أمام بوابة معسكر قوات الأمن التي كانت تعرف ب "شبرد" في معسكر شامبيون لاين – عند أقاربي الذين يعملون في تلك القوات من أبناء العوالق ..وعادة أنزل عند أعمامي أو ابن خالي أحمد عبدالله مجلبع الذي يستضيفني عنده في سكنه الخاص والمستقل داخل المعسكر.. .والمسافة من زنجبار إلى عدن حوالي 70ميلا بالسيارة على ساحل البحر .

إلى كريتر:

في العصر نخرج من المعسكر إلى الشارع الرئيسي ، أمام بوابة المعسكر ننتظر
الباصات المتجهة إلى خور مكسر – كريتر – أو المعلا – التواهي " ونصعد الباص المتجه إلى كريتر ويأخذ الكمساري مقابل تذكرة الشخص الواحد 4 آنات (عانات) – الأوتوبيس نظيف جدا وزي السائق والكمساري من اللون الكاكي المميز.. ومعظم الركاب مظهرهم الخارجي يشع نظافة.. ويرتدي معظمهم البنطلونات والقمصان.. والبعض باللباس الوطني الفوطة والقميص والعمامة ...وينطلق بنا الباص حول سور المعسكر المحاذي لشاطئ البحر ثم ندخل حي خور مكسر بجوار بوابة المطار ثم يمر وسط الشارع بين مساكن الإنجليز ومدارسهم.. وخور مكسر من الأحياء الراقية جدا في البناء والشوارع والمساكن ولا يقف الأوتوبيس لكل من أشار له بيده.. بل له مواقف معروفة وأرقام معروفة حسب اتجاهاته المذكورة آنفا ثم نمر بجوار مستشفى الملكة اليزابيث في خور مكسر.
خور مكسر:
روى المؤرخون أن اسم مدينة "خور مكسر" اسم قديم ذكر قبل مئات السنين والخور كان مكسرا منقسما ، ولذلك سموها خور مكسر.
كانت خور مكسر موقعا عسكريا للقوات البريطانية وشيدت فيه بريطانيا الثكنات العسكرية للضباط والجنود. بعد أن تحولت قيادة القوات الجوية سنة 1927م إلى عدن اهتمت بريطانيا بحي خور مكسر. وشيدت فيه مطارا جويا عسكريا وبعض المعسكرات والمباني لجنود القاعدة الجوية وبعد الحرب العالمية الثانية خططت خور مكسر تخطيطا عمرانيا حديثا وفق الطراز الإنجليزي وأمدتها الحكومة بكافة الخدمات وجددت المطار العسكري وإلى جانبه شيد مطار خور مكسر المعروف الآن بمطار عدن الدولي ..وتبع ذلك بناء العديد من المنازل الخشبية التي تتكون بعضها من طابقين وبعضها الآخر من طابق واحد على النمط الهندسي الإنجليزي وبعض الفيلات المطلية بالطلاء الأبيض ولذلك عرفت هذه الوحدات السكنية بالمدينة البيضاء كما بنيت في خورمكسر
مستشفى الملكة:

وضعت الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا حجر الأساس لهذا المستشفى عند زيارتها لعدن في 27 أبريل عام 1954م، وتم افتتاحه في شهر أغسطس 1958م وكانت المرحلة الأولى لتشغيله سعة (265 سريرا) ثم 500 سرير في الستينات وبني على أحدث المواصفات والمقاييس العالمية في الجودة آنذاك وكان أول مستشفى أدخل فيه نظام التكييف المركزي في الجزيرة العربية والخليج.

واصل الأوتوبيس سيره ومر بجوار المستشفى ثم على كورنيش البحر المعروف بساحل أبين ثم مررنا بثانوية لطفي جعفر أمان ودخلنا إلى كريتر شارع البنوك – ثم شارع أروى وعبر بنا بجوار السينما الهندية – ثم توقف في محطته الأخيرة بالميدان بكريتر.
والى اللقاء في الحلقة الثانية
د.علوي عمر بن فريد