محمد أبوالفضل يكتب:
من يريدون الحرب في ليبيا
يمكن لمن ينظر إلى التطورات المختلفة على الساحة الليبية يكتشف بسهولة أن هناك فريقا يريد استمرار الحرب ويدفع نحوها بكل الوسائل الممكنة، ويبذل جهدا مضنيا لعدم وقفها. يجد في كل محاولة مصرية أو دولية لتحقيق السلام كارثة ستحل عليه، خاصة وأن أنصار هذا الفريق يقفون في منتصف الطريق حاليا، لا هم سيطروا على السلطة كما يحلمون، ولا هم خارجها تماما.
تبدو المسألة مغرية لهؤلاء، فما جرى تحقيقه عبر المرتزقة والعصابات المسلحة والإرهابيين وتعميم ونشر الفوضى، يصعب الوصول إليه من خلال الأدوات المحكومة بضوابط سياسية وقانونية تتطلب قدرا عاليا من المسؤولية فيمن يتصدون للدفاع عن الاتجاه نحو السلام.
وإذا ابتعدت عن هذه الخصائص المهمة تصبح فاقدة للشرعية والمروءة والوطنية، وتلجأ بكل الوسائل إلى خطاب مليء بالمغالطات، معتقدة أنه يمكن تسريبه إلى عقول وقلوب المواطنين الشرفاء في ليبيا.
حددت كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسي، السبت الماضي، في المنطقة الغربية بحضور كبار القيادات العسكرية، وزعماء قبائل ليبية، الخطوط الدقيقة للموقف المصري والتي يجب عدم تجاوزها، وأكدت أن خيار التدخل العسكري مطروح على الطاولة في أي وقت دون اخلال بالثوابت المتعلقة بأولوية إحلال السلام، والتخلص من المرتزقة الذين جلبتهم تركيا، وتسليم السلطة لأصحابها الحقيقيين.
شفى المضمون العميق الذي حملته تصريحات الرئيس السيسي غليل الكثير من العرب والمصريين، فقد انتظروا منه موقفا يطمئنهم ويرضي غرورهم القومي، ويحمل رسالة حادة لمن عبثوا بالأمن الليبي وتأثيراته الإقليمية، وهو ما كانت له انعكاسات سلبية على حسابات من بنوا تقديراتهم على التقدم شرقا وجنوبا لاحقا.
حملت رسالة الاستعداد للحرب الرشيدة ألما لبعض القوى التي استثمرت في عدم وجود قوة وازنة أمام مرتزقة تركيا، وقادتهم تطلعاتهم إلى ما وراء سرت والجفرة، وهما الخط الفاصل الذي رسمته مصر ويجب عدم تجاوزه.
وهزت قوة الرسالة فريق الحرب، حيث أشارت إلى أن المعادلة التي تم تأسيسها وفقا للتوازنات الحالية بعد معارك طرابلس والغرب الليبي قابلة لأن تتغير سريعا، وتفقد فريق الحرب كل ما كسبوه سياسيا واقتصاديا خلال السنوات الماضية.
رفض هذا الفريق إعلان القاهرة الذي سعى لتحقيق السلام، وقدموا خطابا يبدو سعيدا بفكرة التدخل العسكري المصري، وتعاملوا معها بجدية في ظاهرها التحدي، وفي جوهرها الخوف والرعب من المصير المحتوم الذي ينتظر التنظيمات الإرهابية في ليبيا، والذين اعتقدوا أنهم تمكنوا من الهيمنة على مركز السلطة في طرابلس، وتعمدوا خلط الأوراق بين أزمتي ليبيا وسد النهضة.
من يدقق في العناصر الرئيسية لفريق دق طبول الحرب يجدها تتكرر في فريق رفض السلام. هناك قواسم وخطوط مشتركة بين طاهر السني، ومحمد بوصوير، وكل من لف لفهما. لن أتحدث عن معلومات شخصية باتت معروفة للجميع بشأن تجاوزات أخلاقية، لكن ما يهمني هنا الوقوف عند العلاقة التي تربط هذه النوعية بتحالف الإخوان والقاعدة ومن خلفهما تركيا. دخلوا السلطة الحالية لخدمة أجندة تريد السيطرة على الدولة الليبية وحرفها عن مسارها العروبي.
من يتابع تعليقات السني وبوصوير، وغالبية الشخصيات التي تتصدر الدفاع في حكومة فايز السراج، يتيقن من أهمية تبني منهج الحرب لمجرد الحرب. ويلاحظ عمق التخلي عن اللغة الدبلوماسية إذا تعارضت مع المصالح الشخصية.
فالسني مثلا، وهو حامل حقيبة السراج سابقا ولا يحمل مؤهلات تخوله تمثيل ليبيا في الأمم المتحدة، بدت مهمته محصورة في التشويش على الموقف المصري في المنظمة الدولية، وتفشيل أي جهوة ترمي للسلام، واختلاق الأكاذيب حول ما يدور على الأرض في ليبيا، والدفاع عن تركيا متجاهلا أنها تقود تحالفا من الإرهابيين.
خفت الصوت التركي خلال الأيام الماضية، وحل ليبيون للدفاع عن أردوغان، ولم نجد العنتريات السابقة التي اكتسى بها خطاب أنقرة، وبات منشغلا أكثر بترتيب أوراقه قبل أن تنسحب الأرض من تحت أقدامه، في ظل حملة فرنسية ضارية حملته جزءا كبيرا من المأساة التي تعيشها ليبيا، بسبب تدخلاته وتجاوزاته وإجراءاته الخارجة عن الشرعية الدولية، والتي ستفضي إلى أزمات مضاعفة.
جرت الحملة التي يقودها الرئيس ايمانويل ماكرون خلفها تغيرات في مواقف عدد من الدول الأوروبية، وقلق من جانب الولايات المتحدة التي بدأت تخشى أن تؤدي مغامرات تركيا إلى مضاعفة خسائرها الاستراتيجية في منطقة حيوية.
ما يعني أن هناك تحولات تسير في غير صالح التصورات التي رسمها الرجل لنفسه، ما يستوجب أن يقوم وكلاءه في ليبيا بالرد نيابة عنه، واستكمال المسيرة، واستخدام عبارات تبعد شبح التسوية السياسية بذرائع واهية، وتعزيز الحرب التي أتاحت لأنقرة تدشين الكثير من مقارباتها في المنطقة، ومكنت تحالف واسع من المتطرفين التمركز في طرابلس والقبض على زمام السلطة فيها، والتطلع لما بعدها.
تمثل الحرب المدخل لاستمرار موزاييك سياسي وعسكري تقوده تركيا، فهي التي منحتهم قبلة الحياة، ووارت الكثير من عيوبهم وخلافاتهم، وساعدتهم في الاستيلاء على الثروة، بينما يؤدي السلام إلى محاسبة سياسية وقانونية، ووضع أسس حاكمة لإدارة دولة وطنية خالية من الميلشيات، ومنزوعة الدسم التركي، وبعيدة عن مفاهيم أيديولوجية بغيضة جرى ترويجها لتجميع مرتزقة من سوريا وغيرها.
يستثمر المتضررون من التسوية جهودهم في الحرب، ليس باعتبارها نزهة، فهم يعرفون تكاليفها المادية الباهظة، لكنها تظل في تقديراتهم أفضل من حلول السلام، الذي يعني انتهاء مشروع تركيا في ليبيا، بينما تُبقي المعارك التي لا تعرف سواها الميلشيات الباب مفتوحا أمام مواصلة حلقات استنزاف الخصوم لوقت طويل.
يتعرض طريق الحل السياسي للهدم من قبل الذين راهنوا على إطالة أمد الحرب لأكبر فترة ممكنة، وما لم تجتمع إرادة المجتمع الدولي حول إعادة انطلاق قطار التسوية من محطة برلين التي توقف عندها، وإشراف الأمم المتحدة، ستجد تركيا فرصتها من خلال أذرعها داخل ليبيا لتخريب التحركات الهادفة لإحلال السلام، لأن أنقرة تدرك تكلفته العالية عليها، ومن ساندوها. فمن يتغذى على الانفلات من الصعب أن يقبل التعايش في كنف الاستقرار. ولذلك يريدون الحرب.