محمد أبوالفضل يكتب:
رافضون ومؤيدون لمصر في أزماتها الإقليمية
تكشف الأزمات معادن الناس ومواقف الدول، وفي أضخم أزمتين تمر بهما مصر حاليا، ليبيا وسد النهضة، انقسم الطرفان (الناس والدول) إلى فريقين أحدهما يشمت بما تواجهه الدولة المصرية من تحديات عميقة ويتمنى هزيمتها، والآخر يؤيد قيادتها في التوجهات التي ذهبت إليها في المرونة والحذر والحسم والصلابة، ويتفهم الدواعي التي تقتضي سلوك أيّ منهم والقبول بالنتيجة التي يصل إليها.
يوجد بين الفريقين العربيين فريق ثالث يقف بينهما في المنتصف تقريبا، يصعب وصفه بالمحايد، مواقفه متقلبة بينهما صعودا وهبوطا، أو بمعنى أدق تعجبه اللعبة الحلوة والتصورات الجيدة من قبل القاهرة، ويغضبه الإخفاق والترهل والعشوائية، ويحدد كل نموذج رؤيته بناء على ما تراكم لدى أصحابه من ثقافة وخبرات، وهم لا علاقة لهم بمواقف عقائدية أو أيديولوجية.
عندما ألقى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خطابا حادا في المنطقة العسكرية الغربية في 20 يونيو، بشأن الأزمة الليبية، تجاوز صداه الحدود، فهذه من المرات القلائل في السنوات الأخيرة التي يتحدث فيها زعيم عربي بجسارة ضد التجاوزات التركية، حيث لوّح بالتدخل العسكري، ووضع ضوابط أو خطوطا حمرا، وبدا في النهاية شافيا غليل البعض لهذا النوع من التصورات، ومصطحبا معه المزيد من الكراهية عند آخرين تمنوا أن تظل مصر متقوقعة على نفسها.
أخرج هذا الموقف مخزونا كبيرا من العطش العربي لدور مصري يطمح إلى سد الفراغ في الساحة التي ملأتها تركيا وإيران، حيث انتزعت كل منهما أماكن كانت حكرا على العرب، وتحالفتا مع جماعات وتنظيمات متشددة ناقمة على أي تلاحم، لن يكون ممكنا إذا لم تتوافر له قوة عسكرية كبيرة، كما فجر بركانا من الغضب نحوها، لأن هناك من يريدون تخريبها لينكسر الطوق العربي تماما.
استحوذت الأزمتان على اهتمامات قطاع كبير من الناس في مصر، وغيرت أولوياتهم من القضايا المحلية إلى الإقليمية، وهذا طبيعي في ظل التداعيات المصيرية، فعبورهما بسلام أو التعثر فيهما سوف يؤثر على حياة المواطن العادي.
انتقل الاهتمام إلى شريحة من المواطنين العرب في دول مختلفة، ومن مشارب وألوان مختلفة أيضا، وإذا كان التفاعل مع ليبيا مفهوما في بعده العربي، فالانخراط في تفاصيل سد النهضة تفسيراته متباينة وممتدة، أهمها الشعور بخطر الوجود لما تمثله المياه من انعكاسات على مستقبل الدولة، سلبا وإيجابا.
معروف أن التطورات الساخنة تحظى بالاهتمام من الجميع، ويصعب أن يحتكرها المنخرطون فيها، لذلك فالحديث هنا ينصب حول من يتبنون مواقف سياسية، لا ثقافية وفكرية عامة، ويعملون على ترويجها بصيغة مع وضد، ويحشدون لها الكثير من الأسلحة المعنوية والمادية لنصرة أو هزيمة مصر في هاتين الأزمتين.
يتشعب الحديث عن الأزمات العربية، ويذكرنا بحروب كثيرة جرت فيها انقسامات، لكل منها خصوصية وزمان ومكان ولاعبون أسهموا في توجيه بوصلة ومواقف الناس والدول.
هناك سلسلة من الأزمات العربية السابقة والحالية ينطبق عليها هذا المعيار، لكن الحالة المصرية الراهنة غير مسبوقة، لأن التباين تجاوز الشماتة والفرح إلى التحريض المبالغ فيه، واستخدام مفردات تعبر عن مدى التشرذم الذي أصاب الأمة العربية، وحاجتها إلى لمّ الشمل قبل أن تتعرض لانهيار أشدّ خطورة.
يرجع تركيز المؤيدين لمصر والرافضين لها، إلى أنها عامود الخيمة العسكري الوحيد في المنطقة العربية، وتخطي المشكلات أو الوقوع في فخاخها سوف تكون له تأثيرات على بقية الدول العربية، وقد ترسم أزمة ليبيا أو سد النهضة محددات الحركة أمام القاهرة، وتكشف أين تضع أقدامها في المرحلة المقبلة.
فهذا النوع من المشكلات المحورية في ما تفرزه من نتائج، ولذلك بدا التباعد على طرفي نقيض، ووجدت فئة من المصريين بلدها في عين عواصف إقليمية حادة، وأنه مستهدف من قبل قوى كبرى لن يهدأ لها بال حتى تنال منه.
كسرت مصر أحد أهم المشروعات الإقليمية خطورة عندما تمكن الشعب والجيش من عزل جماعة الإخوان عن الحكم، وتعرضت طموحات أردوغان لضربة شقت ظهر مشروعه الإسلاموي، ويحاول الرجل القبض على زمام الأمور من نافذة ليبيا بعد أن فشلت أو تعطلت نافذة السودان، أو عبر شرق البحر المتوسط، وهو يحتمي بدول توفر له غطاء للحركة في هذه المسارات، وتتقاطع أو تلتقي مع رغبات دول وشعوب، ما جعل الموقف العام من القاهرة يحظى بتسليط الأضواء عليه.
كانت شريحة كبيرة من الناس تعتقد أن مصر محور الكون أو “أم الدنيا”، على سبيل الاعتزاز الوطني، ومن قبيل الإرث الحضاري الذي تحرص حكومات متعاقبة على غرسه طوال مراحل التعليم المختلفة، وانتقل إلى وسائل الإعلام حاليا، وتحرص غالبيتها على الحديث عن المحاسن والقوة.
خفت حدة الشوفينية، لكن آثارها باقية، حيث نشأت أجيال على التضخم المعنوي، ولم يلتفت كثيرون لمدى اتساق الحاضر مع الماضي الذي كان دافعا لهذا الفخر والاعتزاز، مع تجاوزنا عن بعض إخفاقات الماضي وما يدور حولها من اختلاف في التقييم السياسي.
في أوج الأزمات التي تعج بها البلاد تجد أحيانا هذه النبرة الشعبية تطل برأسها، ربما تكون موجودة في جينات هؤلاء، أو مقصود ترسيخها لأسباب تتعلق بحسابات السلطة، أي سلطة، وتجد المواطن الغلبان يعيش ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة، لكنه يعتز بمصريته، وتعمل الإدارة المصرية الراهنة على ترسيخ هذا المفهوم، مع توفير عناصر القوة الخشنة دون الاهتمام كثيرا بالقوة الناعمة.
يطول الحديث حول هذه القضية، ويأخذنا إلى مناح اجتماعية وثقافية عدة، غير أن الباب الذي فتحته الأزمة الليبية وأزمة سد النهضة، يصعب تجاهله، لأن الناس والدول التي تتبنى موقفا مع أو ضد من أصحاب الصوت العالي تتشابه في الأزمتين، فالمؤيدون لقطر وجماعة الإخوان والتنظيمات الإرهابية من السهولة التعرف على وقع أقدامهم، فهم دوما بالقرب من توجهات أنقرة التي تريد تقويض دور للقاهرة في ليبيا، وبالتالي تشجيع إثيوبيا ضمنيا على تبني تحركات تؤدي إلى وقوع ضرر مائي لمصر.
في المقابل، تجد الدول والشعوب المناهضة للجماعات المتطرفة، وأبرزها السعودية والإمارات والبحرين، مؤيدة لمصر في أزمة ليبيا، ومتعاطفة معها في أزمة سد النهضة، وثمة أنواع كثيرة من الدعم ظاهرة وباطنة قدمت إلى القاهرة، ويتسق جزء كبير من التأييد والتعاطف مع مصالحهم، وينطلق من رحم حسابات تتعلق بأهداف غاية في الحيوية، تصب في البوتقة المصرية.
تظل فكرة المؤيدين والمعارضين مستمرة، طالما هناك مراوحة سياسية وعسكرية، وتصاعدها أو هبوطها على علاقة وثيقة بما ستسفر عنه كل من الأزمتين، لأن المعركة لم تعد تحتمل القسمة على اثنين، فمع اتساع الهوة بين مشروعي الاستقلال العربي والتبعية لتركيا سوف تزداد الفجوة بين الطرفين، وتبدو مصر رمزا لها في حالتي النصر أو الهزيمة، وهو ما يفرض قدرا أكبر من التكاتف مع القاهرة كي تتمكن من عبور الحلقة الحرجة، وعليها قد يتحدد مصير المنطقة.