محمد أبوالفضل يكتب:

في السلم والحرب.. ليبيا نقطة ضعف في خاصرة مصر

يبدو أن تركيا عازمة على استمرار سيطرتها على مفاتيح الحل والعقد في طرابلس، ومصممة على تطوير تعاونها في مجالات مختلفة، في مقدمتها المجال العسكري، حيث تناثرت أخبار حول رغبتها في إنشاء قاعدة جوية في الوطية، وأخرى بحرية في مصراتة، وربما يمتد الأمر إلى غيرهما في الغرب والشرق والجنوب، بمعنى أن هناك نوايا للسيطرة العسكرية قد لا تقف عند حدود معينة.

جاءت زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، ومعه رئيس الأركان يشار غولر لطرابلس يومي الجمعة والسبت بزعم الاطلاع على سير الأنشطة الجارية في إطار مذكرة التفاهم الأمني والعسكري المبرمة بين الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج، لتضفي بريقا على حديث القواعد التركية في ليبيا، فزيارة أكار وغولر، أوحت بهذا المعنى من خلال تفقد غرف عمليات وعقد لقاءات مع جنود وضباط، في إشارة تحمل تحديا سافرا لمصر.

لم تنفصل القاهرة يوما عن ليبيا في السلم والحرب، ففي الحالتين تتعامل معها دوما على أنها نقطة ضعف استراتيجية يجب معالجتها كي لا تتحول إلى جرح ينزف باستمرار، ما تطلب تعاملا يراعي مجموعة كبيرة من الاعتبارات السياسية والأمنية والاجتماعية، ودفعها إلى عدم التعجل في الصدام مع تدخلات القوى الأجنبية.

أخذت الأمور تنفلت من عقالها، وبدأت تركيا تقترب أكثر من تهديد الأمن القومي لمصر، وهو ما أرخى بظلال سلبية على طريقة التعاطي مع الأزمة، وأدخل العنصر العسكري في المعادلة بعد فترة من استبعاد التلويح به مباشرة.

تحدثت دوائر تركية، وأخرى إخوانية محسوبة عليها، بأن للقاهرة أطماعا في الاستحواذ على ثروة الشعب الليبي، ومنحوا جانبا كبيرا من الاهتمام لهذا المحور ولم يلتفتوا إلى المحتوى الاستراتيجي الذي تمثله هذه الدولة قديما وحديثا، أو تعمدوا إسقاطه ليتمكنوا من خلق فتنة وحشد الليبيين ضد مصر، وتجاهلوا تاريخها الرافض لهذا النوع من التصورات التي أصبحت عنوانا لإجراءات عدة تتخذها أنقرة مع حكومة الوفاق.

ما يرفع أهمية ليبيا بالنسبة لمصر هو تأثيرها الأمني المفرط، الأمر الذي أزعج الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وعبر عنه بوضوح في 20 يونيو الماضي في لقاء عقده بالمنطقة الغربية أمام عدد من القيادات العسكرية وشيوخ قبائل ليبية، وألمح فيه لأول مرة إلى رفض بلاده لأي قواعد عسكرية (تركية) في ليبيا، عندما أعرب بحسم للتصدي لأي تقدم نحو سرت والجفرة.

تعد القواعد العسكرية الأجنبية في ليبيا الخط الأحمر المركزي لمصر، ولذلك كثفت قيادتها السياسية من القواعد في المنطقة المحاذية للحدود مع ليبيا على مستوى البر والجو والبحر، فبعد افتتاح قاعدة “محمد نجيب” قبل ثلاثة أعوام يجري الانتهاء من قاعدة “جرجور” البحرية على مسافة قريبة من الحدود مع ليبيا، لتحقيق المزيد من التأمين والفاعلية السريعة.

يأتي الانزعاج من وجود قواعد تركية في ليبيا لما تمثله من تغيير في البيئة الاستراتيجية، فأي قواعد تمثل تهديدا مباشرا لمصر، وهناك سابقة تاريخية كلفت البلاد الكثير في حرب يونيو 1967، ففي إحدى خطبه بعد النكسة أشار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إلى أن الجيش كان ينتظر قوات العدو الإسرائيلي من الشرق، لكن جاءته من الغرب ودمرت سلاح الجو المصري.

بصرف النظر عن الخطأ العسكري الشامل والقصور اللافت للجيش في هذه الحرب، فإن الطائرات التي جاءت من الغرب انطلقت من القواعد البريطانية والأميركية في ليبيا، حيث كانت الولايات المتحدة تمتلك أكبر قاعدة كبيرة قرب بنغازي، تسمّى “ولّيس”، وبريطانيا لها قاعدة مهمة في طبرق.

تعيد أنقرة ترتيب أوراقها كأنها تشعر بأن حكومة السراج أدت دورها وربما أوشكت على النهاية لذلك تسعى لتوقيع اتفاقيات تقيد أي حكومة ليبية قادمة وتضعها أمام واقع يصعب التملص منه

يحتفظ التفكير المصري بهذه الواقعة، وزاد الرجوع إليها الأيام الماضية، وسلطت عليها الأضواء وسائل إعلام مصرية للتأكيد على أن هذه هي المشكلة الحقيقية التي تواجه القاهرة في ليبيا، والتي دفعت الخطاب المصري إلى إبداء قدر واضح من الصرامة العسكرية، فكيف يتم منع وجود قواعد تركية في ليبيا تهدد أمنها.

هناك تقديرات للتعامل مع الأزمة تسير أولا عبر تفعيل عملية التسوية السياسية بمشاركة المجتمع الدولي والدعوة إلى حل تناقضاته، وبدأ التلويح بالأداة العسكرية مع تقدم قوات حكومة الوفاق في غرب ليبيا، والمكونة من مرتزقة وميليشيات مسلحة وإرهابيين مدعومين من تركيا، ثم الإعلان مرارا عن التقدم نحو سرت.

مع هذه الطفرة التي اصطحبت معها تراجعا لقوات الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، زاد القلق المصري ولاح في الأفق حديث القواعد الأجنبية بوتيرة متسارعة، وفهمت أنقرة أن صمت المجتمع الدولي أو تقاعسه قد يمنحها غطاء سياسيا للتمادي في تحركاتها، وأن حذر القاهرة سوف يستمر حتى لو واصلت تركيا تغلغلها في الغرب والشرق، دون مراعاة لما يمثله الثاني (الشرق) من تهديدات لمصر.

استقبلت أنقرة إنذارا يصب في هذا الاتجاه عندما تعرضت معدات عسكرية تابعة لها للتدمير في مصراتة والوطية وسرت، قيل إنها تلقت ضربات قاسية مما يسمى بالطيران المجهول التابع لدول تدعم الجيش الوطني، ولم ترد معلومات مؤكدة أنه يتبع مصر، لكن قوة الضربات ونوعيتها تصبان في رفض الجهة التي قامت بها لأي تمركز تركي في ليبيا، وحصولها على قواعد عسكرية سوف يكون عملية مكلفة لأنقرة.

يستلزم التعامل المصري مع نقطة الضعف في خاصرتها الغربية الممتدة على حدود يبلغ طولها 1200 كيلو متر اتخاذ مجموعة من الإجراءات الداخلية، وهو ما قامت به القيادة العسكرية خلال الفترة الماضية، وأخرى خارج الحدود تتطلب عمليات استخباراتية واستطلاعية وجاهزية للتحرك في أي لحظة.

تريد تركيا تحويل وجودها العسكري التدريجي إلى أمر واقع من خلال عقد اتفاقيات مع حكومة السراج تكبلها وتمنحها القواعد التي تريدها ضمنيا، فإذا لم تتمكن من أن تطول الشرق فيمكن أن تكثف وجودها في الغرب، وتلتف على عقبة موافقة البرلمان كجهة شرعية ومنتخبة وحيدة، كما حصل مع مذكرتي التفاهم في نوفمبر الماضي وما تلاهما من اتفاقيات أمنية واقتصادية غالبيتها غير معلنة.

تتصرف أنقرة بوتيرة سريعة الآن، وتعيد ترتيب أوراقها على أكثر من مستوى، كأنها تشعر بأن حكومة السراج أدت دورها، وربما أوشكت على النهاية، لذلك تسعى لتوقيع اتفاقيات تقيد أي حكومة ليبية قادمة، وتضعها أمام واقع يصعب التملص منه.

إذا لم تحقق غرضها في تثبيت أقدامها من خلال قواعد عسكرية تكون امتلكت أوراق ضغط على الحكومة المقبلة، فإن جاءت من حلفائها الإسلاميين ضمنت تنفيذها، وإذا انحرفت عنهم السلطة هذه المرة يمكن لأنقرة ممارسة ابتزازها والدخول في مساومات قد تضمن لها تموضعا متعددا ومناسبا في المستقبل.