علي الصراف يكتب:
الحرب – الضرورة: على أعتاب نهاية المشروع الإخواني
تستطيع مصر أن تهنأ وأن تنتظر. لا شيء يبرر القلق لديها، بل لا شيء يلزمها بأن تبدأ أي عمل عسكري قبل أن تبدأه أنقرة، ولكنها تدرك في الوقت نفسه أن الحاصل حاصل في نهاية المطاف، وأنها تستعد له.
“صاحب الحاجة، أحمق”، يقول المثل. وميليشيات أنقرة في طرابلس هي صاحبة الحاجة. إنها تريد المال. فمن دونه لا تستطيع أن تدفع فاتورة الدعم لأنقرة. كما أن أنقرة نفسها تعرف أن اتفاقاتها الاقتصادية والأمنية مع حكومة فايز السراج لا قيمة فيها ما لم يتوفر لها المال.
موانئ تصدير النفط، وآباره التي تقع تحت سيطرة الجيش الوطني الليبي، هي الجائزة التي تريد ميليشيات أنقرة أن تفوز بها. ومن دونها فإن كل شيء سوف يتفكك وينهار. فأنقرة حتى وإن كانت تلقت الكثير من المال من الدوحة من أجل دعم عملياتها العسكرية في ليبيا، إلا أنها في وضع اقتصادي لا يزال صعبا. ولا تستطيع أن تحارب إلا نقدا. هذا هو الأساس في تعاملاتها مع حكومة السراج أصلا: الدعم مقابل الدفع نقدا. ومن دون نفط، فإن الشركات التركية لن تفوز إلا بصفعة على الوجه. والدفع نقدا، مطلوب أيضا لأن أنقرة تدرك سلفا أنها تخوض مغامرة قد لا تنتهي بمحمود العواقب.
هذا يعني أن الجائزة المطلوب الفوز بها، يمكن أن تكون هي ذاتها المقتل.
ميليشيات طرابلس نفسها، جزء من المشكلة. فعلى الرغم من مرور خمس سنوات على قيام سلطتها، فقد عجزت عن أن تقيم نظاما يستحق اعتباره دولة
الكل يعرف أن التحذير الأوروبي الذي صدر عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، بفرض عقوبات على “كل الأطراف الخارجية التي تنتهك الحظر الكامل للسلاح”، كان موجها لأنقرة بالدرجة الأولى، ولكن حتى ولو كان موجها للجميع على حد السواء، فإن جانبا من ذلك “الجميع” ليس مضطرا لبدء أي معركة. المضطر هو أنقرة، ويقع عليها وحدها أن تعيد النظر في كل الحسابات.
وبحكم الحمق الذي تمليه الحاجة، فإنها لن تجد نفسها إلا أمام خيار وحيد: أن تمضي بالعدوان قُدما. وهذا شيء رائع. وسيكون عملا تاريخيا لو أنه حصل بالفعل.
التوازنات القائمة تقول إن تركيا مأزومة اقتصاديا، ولن تتحمل تكاليف حرب غير مضمونة النتائج.
ما تحتاجه تركيا لكي تضمن هيمنتها على ليبيا ومشروعها في المتوسط، هو أن تفوز بالحرب كحرب، وأن تفوز بالسياسة بعدها أيضا، وأن تملي شروطها على الجميع أيضا وأيضا. وهذا أكثر من كثير من وجهة نظر الواقع. لا الحروب تخاض على هذا الأساس، ولا هي تنتهي بالضرورة بفرض إملاءات شاملة. والنهايات يمكن أن تظل مفتوحة إلى أمد أطول مما يتحمله اقتصاد مأزوم.
العنصر الآخر هو أن الجيش التركي نفسه لا يريد أن يمنح أردوغان نصرا، ولا من أي نوع. فهذا الجيش لا يزال يلعق ما أصابه من جراح جراء المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو 2016، وجراء عمليات التطهير التي شنها أردوغان ضد قياداته ومؤسساته.
العنصر الثالث، هو أن سياسات أردوغان حيال الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا تجعله مكروها من جميع هذه الأطراف. صحيح أن كلا منها يطمع بشيء من تركيا، إلا أن أردوغان يبتز هذا بما يمكن أن يعطيه لذاك، ما يوفر القناعة بأنه شخص غير مستقر، وأن طموحاته أكبر منه، وأنه يشكل تهديدا أكثر منه حليفا، حتى بالنسبة لحلف الأطلسي نفسه.
العنصر الرابع، هو أن أردوغان وحزبه المتشرذم مكروهان في الداخل أكثر من الخارج. أحدث الاستطلاعات تشير إلى ذلك بوضوح. كما أن هزائمه في الانتخابات المحلية في أنقرة وإسطنبول وديار بكر وعدد من المدن الكبرى الأخرى، تشير بوضوح أشد إلى أن أردوغان يسير على أرض لزجة، وأن حربا واسعة النطاق في ليبيا لن يمكنها، مهما كانت النتائج، أن تمنحه ما يأمل به، بل إنها قد تشجع على محاكمته أو عزله، أو إجباره على قبول التوجه إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
العنصر الخامس، هو أن أردوغان يتبنى مشروعا أيديولوجيا “إشكاليا” بالنسبة لأوروبا، وإرهابيا بالنسبة للمنطقة، وفاشلا بالنسبة لتركيا نفسها، بحسب ما هو ملموس من نتائج اقتصادية وإستراتيجية وسياسية. وفي الواقع فإن هذه النتائج، وبعضها كارثي، هي ما دفع العديد من قيادات “حزب العدالة والتنمية” إلى الانشقاق عليه والانتقال إلى صفوف المعارضة والتنديد بالسلوك الاستبدادي الذي يتبعه أردوغان حيال العديد من القضايا الحيوية.
العنصر السادس، هو الأرض. فأردوغان، حتى وإن كان قادرا على نقل عشرات الآلاف من المرتزقة، فهؤلاء لا يملكون الأرض، ولا يشعرون بها. الجندي الذي يحارب على أرضه، يعرفها ويتحسسها على نحو لا يستطيعه أي مرتزق. وهذا عامل حاسم، يجعل من رهان ميليشيات طرابلس على مرتزقة أردوغان، عملا يائسا، عالي الكلفة، قليل النفع.
العنصر السابع، هو أن ميليشيات طرابلس نفسها، جزء من المشكلة. فعلى الرغم من مرور خمس سنوات على قيام سلطتها، فقد عجزت عن أن تقيم نظاما يستحق اعتباره دولة. كما عجزت أن تبني جيشا أو مؤسسات. وظلت لا تجرؤ على مواجهة أي دعوة للانتخابات لأنها تعرف نتائجها سلفا. بل إنها خسرتها في الأساس عندما تم انتخاب مجلس النواب الحالي. هذا الواقع يجعلها هي نفسها قوة مرتزقة. وأردوغان نفسه يعاملها على هذا الأساس. إنها الحائط المائل الذي لا بد له أن يقع، في النهاية على رؤوس صانعيه.
أنقرة حتى وإن كانت تلقت الكثير من المال من الدوحة من أجل دعم عملياتها العسكرية في ليبيا، إلا أنها في وضع اقتصادي لا يزال صعبا
ما الذي يجعل أي جدار واقفا؟
سؤال يجدر التأمل فيه. والجواب، هو ليس ثقل الحجارة ولا متانة الإسمنت في ما بينها، وإنما استقامته. والميليشيات في أي مكان، لا تبني دولة، لأنها تتنافى مع طبيعتها بالذات، ولأنها لا تستطيع أن تقيم أي جدار ويظل قائما.
أهم من ذلك كله، هو أن الحرب، في ظل كل هذه المعطيات، سوف تكون بمثابة منعطف تاريخي يكفل التخلص من المشروع الإخواني كله، وبكل ما فيه، وعلى طول المسافة من الدوحة إلى أنقرة إلى طرابلس.
أنظر في النتائج، وسترى أن المشروع الأردوغاني المأزوم، ليس مشروعا أحمق بحسب طبيعته، بل إنه مجبر على الحماقة، بسبب شدة حاجته إلى المال. وهذا ما يجعل الحرب ضرورة لا مفر منها.
ولقد حان الوقت للحائط الأعوج أن يقع على رؤوس أصحابه.
مصر تستطيع أن تهنأ. فهي ليست مضطرة لأي شيء. ويمكنها أن تنتظر الحمقى حتى يتجاوزوا خطوطها الحمر.
يقول مثل أفريقي “إذا كان لديك عدو، فلا تقتله. اجلس على ضفة النهر وسترى جثته تأتي طافية”.
وجثة المشروع الإخواني التي تعفنت بأحلام أردوغان العثمانية، لا بد لها أن تأتي، بما صارت تحتاج إليه.