محمد أبوالفضل يكتب:

بكائيات رابعة العدوية من القاهرة إلى إسطنبول

لا تفوّت جماعة الإخوان مناسبة تعتقد أنها تنطوي على مظلومية لها إلا وتتباكى عليها، ومهما مرت سنوات سوف تظل هذه المسألة عقيدة تتحكم في الكثير من التصورات، حيث يتم اجترار الماضي واستخدامه في إسقاطات ممنهجة على الحاضر بغية تحقيق أهداف سياسية في المستقبل.

تناغمت تركيا مع بكائية خاصة بالإخوان المصريين، بحكم أنها أحد أهم الرعاة للجماعة في العالم حاليا، وسايرتها في الاحتفال الحزين بالذكرى السابعة لفض اعتصام رابعة العدوية في القاهرة، والذي يحل اليوم الجمعة، وتحولت تصريحات صدرت في إسطنبول إلى مرثية وظفتها القيادة التركية في حربها ضد الدولة المصرية، واستدعتها كمطية رمزية أملا في تسجيل بعض النقاط السياسية.

تستغل تركيا الأحداث المأساوية التي أدت إلى مقتل وإصابة العشرات من المنتمين إلى جماعة الإخوان على يد قوات الأمن المصرية في 14 أغسطس 2013، وتتجاهل السياق العام الذي أدى إلى فض اعتصامي ميداني رابعة العدوية بالقاهرة، والنهضة بالجيزة المجاورة للعاصمة، بالقوة. كما تتغافل عن أن هناك ضحايا سقطوا في صفوف قوات الأمن أيضا، لأن عددا ممن شاركوا في الاعتصامين كانوا مسلحين.

تكمن التناقضات في العبارات والتوصيفات التي ترددها أنقرة، فهي عندما تتحدث عن الانقلاب العسكري المزعوم في تركيا تكيل الاتهامات لأصحابه، باعتبارهم هددوا الأمن والاستقرار في الدولة ويستحقون كل العقاب والتنكيل بهم، بينما في الحالة المصرية ترى من فقدوا أرواحهم “شهداء وضحايا”، في محاولة للتناغم مع الخطاب الإخواني.

ليس من المفيد إعادة سردية فض الاعتصامين والتفاصيل التي أحاطت بهما، لأن الجماعة لا تراجع نفسها ولا فائدة من عبرة، ولا تعترف بخطأ، وتصر على تبني مواقف تجاوزها الزمن، ولا تقر بأن هناك واقعا جديدا يجب أن تتعاطى معه.

تهرب إلى الماضي وتعيد صياغته بالطريقة التي تتواءم مع رؤيتها المبتورة، وتقف عند النتيجة النهائية، وتتجاوز المقدمات والدوافع التي أدت إليها، فالانتقاء عملية فنية ويتم تسخيره لخدمة مرام محددة، ما أدى إلى فجوات من السهولة النفاذ منها لدحض الكثير من مكونات الخطاب الإخواني.

في كل عام تتكرر السردية بهذه المناسبة دون أن يتغير شيء، حتى تحول فض اعتصام رابعة إلى لحن جنائز تعزف عليه الجماعة بآلاتها الإعلامية المتباينة، لتؤكد أن صوتها لا يزال مسموعا، وتتمكن من التشويش على الإخفاقات التي تواجهها، وتمنح أنقرة سلاحا تتاجر به في حروبها المستمرة مع القاهرة، ربما تداوي به البطحات التي ملأت رأسها بعد توالي انتهاكاتها لأبسط حقوق المعارضة التركية.

تلقي قيادات تركية مختلفة حاليا بثقلها وراء بكائية رابعة، وهي مستفيدة من التواجد الإخواني الكثيف في شوارع إسطنبول التي تحولت إلى ملجأ لقيادات كثيرة تسعى إلى زيادة وزنها النسبي من خلال تصاعد الحملات التي تستهدف القاهرة، وباتت الجنازة التي تنصب كل عام محفلا للسباق نحو تعظيم الولاء.

تخيل كثيرون المشهد لو جرى التعامل بليونة مع المعتصمين في ميدان رابعة، حيث يقع في منطقة حيوية، قريبة من مقرات أجهزة عسكرية عديدة وحساسة، وقتها كان هؤلاء زادوا مخازن أسلحتهم، وحولوا مقرهم إلى دويلة تتوسع شيئا فشيئا، فكانت الفاجعة ستكون أكبر، والخسائر أشد وطأة.

يتغافل البعض ممن توقفوا عند الفض وسقطت دموع التماسيح منهم جراء خسائره البشرية، عن أن الوصول إليه جاء بعد محطات تضمنت تحركات وتنبيهات وتحذيرات استمرت نحو شهرين، لم تتم الاستجابة لها عمدا.

يتوقف هؤلاء عند العناوين العاطفية دون حساب التكلفة السياسية، إذا تم التهاون مع معتصمين كل همهم السيطرة على بقعة في القاهرة أو غيرها، وتأمينها كمقر يتحصنون فيه حينا من الدهر، اتساقا مع إيمان غيبي بأن التمدد قادم لا محالة، وهو ما يفسر الصرامة التي تعاملت بها أجهزة الأمن مع الاعتصامين.

تكون المخطط الخطير من تشكيل بؤرة للتظاهر والاحتجاج إلى مركز للحكم والإدارة، ما يعني أن الاعتصام يتعلق بمصير دولة برمتها، ووضعها عمدا على فوهة بركان قابل للانفجار، ويصبح التردد في هذه الحالة خيانة.

من تبنوا فكرة الاعتصام وروجوا له أرادوا الوصول به إلى نقطة تجبر أجهزة الأمن على تركه لأجل غير مسمى، أو استخدام القوة المفرطة ليتحول إلى مظلومية تثير التعاطف معهم، وتجلب الإدانة للنظام المصري، وهو ما حدث فعلا، لكن الواقع لم يتبدل، فلا الإخوان عادوا إلى الحكم، ولا النظام طاله أذى حقيقي، وبقي الحادث بكل عبره ودروسه يتذكره كل جانب بالطريقة التي تروق له.

عندما يرى مصريون ما تمر به بعض دول المنطقة من حماقات أدت إلى تهاوي وانهيار كيانات يدركون مخاطر التقاعس عن الحسم مع الفض، فالضحايا يتحمل مسؤوليتهم من غرروا بهم، ومن زجوا بهم إلى ساحة الاعتصام من خلال خطاب ديني يستخدم مفردات تدغدغ المشاعر وتلغي العقل.

وجد هذا الاتجاه حضورا طاغيا لدى المنتمين إلى الإخوان، ومن حاولوا وصل انتماءاتهم للجماعة خفية عبر صب اللعنات على من قاموا بالفض بذريعة إنسانية وليست سياسية، وغضوا الطرف عما يستوجبه الإنصاف، لأن الانتهاكات تقع على عاتق السبب قبل النتيجة، ويتحمل مسؤوليتها من حاكوا مؤامرة كاملة لتحويل الاعتصام إلى شوكة في خاصرة الدولة المصرية، ولم يعبأوا بما سيترتب عليه.

انتقلت البكائية من القاهرة إلى إسطنبول، واقتصرت العلاقة على ما تجود به وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من تصريحات وبيانات لقيادات إخوانية وتركية، فلم تهتز الشوارع وتنتفض الميادين ويخرج المتظاهرون في أي من السنوات الماضية، والذكرى لا تزال طازجة، فهل يتغير الحال بعد أن طواها النسيان تقريبا؟

 يعلم من يتعمدون الحديث عنها في الوقت الراهن عدم تأثيرهم، وأنهم فقدوا الكثير من الأدوات السياسية والأمنية، ولم يبق لهم سوى البحث عن مناسبة توحي بأن هناك جسدا ينبض بالحياة، فالصمت هنا ليس أبلغ من الكلام ولم يعد فضيلة عندهم، وقد يرقى إلى مستوى الخيانة، فعندما تتلاشى الخيارات، وتوشك الأبواب على الإغلاق من الضروري اللجوء إلى الضوضاء لتبدو الجماعة مستمرة في مسيرتها.

خسرت المظلومية التاريخية جزءا من لمعانها السابق، ولا تغري الكثيرين بالتجاوب معها، وعاما بعد عام أصبح الحديث عن فض اعتصام رابعة مكررا، ولن يفيد انتقاله من القاهرة إلى إسطنبول في شيء، فالورقة المعنوية التي امتلكها أصحابه للمتاجرة بها جاءت في زمن تتم فيه التصفية في دول بلا مبررات أو تفسيرات.