فاروق يوسف يكتب:
إما فلسطين الممكنة أو الاستمرار في الفوضى
إسرائيل ليست على حق في سلوكها مع الفلسطينيين الذين اعترفوا بها دولة على جزء من أرض فلسطين التاريخية. تلك مسألة لا تقبل النقاش. غير أن المزايدات كثرت من حولها بحيث ضاع الحق. وما كان القانون الدولي يضمنه للفلسطينيين غمرته السجالات بفقاعاتها الهوائية بحيث صار من الصعب على جهات الاختصاص أن تفرق بين مَن يرغب فعلا في التقدم بالقضية إلى الأمام ومَن يتخذ منها غطاء لوجوده المريب ومشاريعه المشبوهة.
فقد الفلسطينيون في خضم الصراع قياداتهم التاريخية واستلم القضية رجال أعمال مهنيون هم على قدر من الحرفة التي لا تمت بصلة إلى قرار المصير الفلسطيني وانفتح الواقع على مآلات مختلفة. كل واحد منها ينفي الأخريات فكانت المتاهة الفلسطينية تزداد سعة وتكثر دروبها في ظل انسداد الأفق للوصول إلى حل سياسي بعد أن وضع اتفاق أوسلو نهاية للكفاح المسلح الذي قاد إلى نتائج مشرفة.
لم يكن الفلسطينيون في حاجة إلى وصاية عربية. كانت تلك خطوة في طريق إعلان رشدهم السياسي. وكان محمود عباس الرئيس الحالي رائدا في ذلك. حيث دبر كل شيء في أوسلو بالتشاور مع القيادة الفلسطينية وهو ما فاجأ الكثير من الأنظمة العربية التي اعتبرت اتفاقية أوسلو خيانة لقضية العرب المركزية ونددت بها غير أنها تواضعت في ما بعد لتعتبر السلطة التي انبعثت من لا شيء الممكن الذي يجب عدم تضييعه.
ذلك الممكن لم يعجب الكثيرين ومنهم إسرائيل، التي صارت تتعامل بغباء غير متوقع مع فرصة نادرة للسلام الذي كان عليها أن تحصد منافعه وهي الرابحة، فيما قبل الفلسطينيون أن يخسروا من أجل أن يمهدوا لقيام دولتهم المستقلة على جزء من فلسطين التاريخية. وما مبالغة إسرائيل في تعاليها على الفلسطينيين إلا دليل على أنها لم تفهم أنها إذا ضيعت فرصة ذلك السلام فإنها قد تفتح أبواب جحيم لن يتمكن أحد من غلقها.
ذلك ما حدث. لقد دفعت المنطقة ثمن الغباء والعنجهية الإسرائيلية. صنعت إيران من فلسطين عربة لاحتلال عدد من الدول العربية وسحق شعوبها. كانت عجلات تلك العربة جاهزة. حركة حماس وحزب الله والميليشيات العراقية كلها اجتمعت تحت لافتة المقاومة التي لم يستفد الفلسطينيون منها شيئا في حين أنها قامت بتدمير البنية الاجتماعية والسياسية للدول العربية التي تحيط بإسرائيل.
هل كانت إسرائيل تحلم بمحيط عربي تعمه الفوضى؟
ما حدث لم يكن في مصلحتها. كانت في حاجة إلى دول مستقرة على غرار مصر والأردن ولو أنها مشت في الطريق التي تبقي الفلسطينيين متمسكين برشدهم السياسي لما استطاعت إيران أن تستعمل القضية الفلسطينية في حربها ضد العرب ولما تمكن تيار المقاومة من استثمار الفشل الفلسطيني في مشروعه التخريبي الذي سمم صلة مجتمعات عربية بالقضية الفلسطينية.
اليوم تحاول إسرائيل استدراك ما فاتها.
ليس التوقف عن مشروعها في ضم الأراضي الفلسطينية إلا بداية للتفاهم على أساس تسويات سيكون للفلسطينيين دور رئيس في نقلها إلى أرض الواقع. وليس من مصلحتهم الانضمام إلى جوقات المزاد التي لا تملك سوى الحديث المجاني عن التطبيع. الفلسطينيون هم الأكثر حاجة لمَن يسندهم في الحوار مع الإسرائيليين. وهم لن يستطيعوا التعبير عن وجهات نظرهم إلا عن طريق وسيط عربي يثقون به بعد أن ضجروا من الوسيط الأميركي.
لا أدعو هنا إلى الواقعية السياسية بل أشير إلى أن تلك الواقعية صارت هي المجال الوحيد الذي يتحرك فيه الفلسطينيون لكي يصلوا إلى أهدافهم التي صاروا يبتعدون عنها بسبب غياب اللغة المشتركة التي تعيدهم إلى الحوار مع إسرائيل.
لقد قبل الفلسطينيون بفلسطين الممكنة وهو ما يجب أن لا يخسروه. أما إذا ضيعوا أنفسهم وسط المزاد فإنهم لن يربحوا شيئا. فالمقاومون أحرقوا مدنا عربية عظيمة ولم يحرروا سنتيمترا واحدا من فلسطين.