عدلي صادق يكتب:

منتقدو الإمارات.. رؤية بعين واحدة

ليس شعب فلسطين استثناء في مسيرات الشعوب الساعية إلى استعادة الحقوق والظفر بالاستقلال الوطني. فلا يخلو تاريخ حركة تحرر من الإحباط والمصاعب وخيبات الأمل، على المستويين الذاتي والموضوعي.

في كل المنعطفات، كان الرهان على وحدة الشعب، وعلى قناعات الأجيال التي تتعاقب على حفظ الأمانة، وسد الثغرات التي ينفذ منها المحتلون ومن يساندونهم، لتكريس الفتن والنعرات ومشاعر الإحباط.

من بين ما سُمع من ردود الأفعال، بعد الإعلان عن الاتفاق التطبيعي، بين دولة الإمارات وإسرائيل برعاية أميركية، هناك ما يسترعي الانتباه لغرابته وعناصر الاشتباه في مقاصده، لاسيما ذلك الهجوم المكثف، الذي يركز على تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، وهو ليس طرفا في اتفاق تطبيع، ولا يمكن أن يكون طرفا.

أي اتفاق تطبيعي، بالنسبة لهذا التيار، لن يكون حدثا سارا ما لم يكن محصلة اتفاق على تسوية تاريخية شاملة، وهذا الذي جعل التيار يكرر التذكير بشروط أي عملية من هذا النوع، وينوّه مرة أخرى إلى مرجعيات التسوية القابلة للحياة.

في السياسة الفلسطينية والعربية، ظلت خطوات التطبيع العربي مع إسرائيل مشروطة بالحل المتوازن، وليس أدل على ذلك من فشل التطبيع الشعبي، أو التطبيع الحقيقي، على الرغم من وجود اتفاقات تسوية منفردة، وقعتها مصر والأردن مع إسرائيل. فقد كانت الشعوب تستنكف عن التطبيع، بحكم نقص شروطه السياسية.

ومعلوم أن الدول العربية التي أبرمت اتفاقات منفردة مع إسرائيل، كانت تبرر ما فعلته بمسألة السيادة، وأن النظام السياسي يريد الاستفادة من العلاقات مع إسرائيل، ومساندة القضية الفلسطينية على طريقته. وعلى الرغم من أن مثل هذه الاتفاقات وتعليلاتها، لم تلق تأييد الفلسطينيين، إلا أنها لم تكن في أي يوم سببا في القطيعة مع الأقطار العربية التي ذهبت إلى هذا المنحى.

بل ما حدث هو العكس. فخلال ثلاثين سنة، كانت القيادة الوطنية الفلسطينية أحرص على عدم القطع مع الدول العربية التي أبرمت اتفاقات مع إسرائيل، لكي لا تتُرك ميادينها ساحة لإسرائيل تؤلب فيها على الشعب الفلسطيني، فيخسر الفلسطينيون كل شيء، دون أن يستطيعوا استعادة شيء من الزخم لقضيتهم إقليميا ودوليا.

معارضة أي خطوة عربية منفردة، حق لأصحابها، لكنها لن تتسم بالنبل، إن كانت من خلفيات غير وطنية، وإنما من تحيز مسبق لطرف على آخر، بحيث يتم التغاضي عن جنس العمل التطبيعي، وعما هو أشمل وأوضح وأكثر تفصيلا، عندما يتعلق الأمر بدول أخرى غير دولة الإمارات.

فعندما ننظر في غرائب الهجوم على تيار الإصلاح الديمقراطي ومؤسسه النائب محمد دحلان، يُستدل من خلال تصعيد الهجوم على الرجل وتياره، أن الحدث الإماراتي جاء فرصة سانحة وسعيدة، بالنسبة للفريق الذي يتظاهر بالغضب، ويعمل على تطيير الاتهامات التخوينية.

فقد رآها هذا الفريق، أو تخيلها، المناسبة التي ستساعده على تحقيق الهدف القديم الذي فشلت في تحقيقه الهجمات الضارية وتلفيقاتها، وهو التخلص من محمد دحلان وعزله، لمجرد كونه استعصى على من يريدون عزله، وأسس تيارا من الوطنيين الذين يطالبون باستعادة مؤسسات الكيان الفلسطيني الدستورية، وطي مرحلة الفساد والتفرد والإقصاء وإنكار الحقوق وجعل سلاح قطع الرواتب وإفقار العائلات، وسيلة لفرض الرضوخ على المواطنين.

خلال ثلاثين سنة أو أكثر حرصت القيادة الوطنية الفلسطينية على عدم القطع مع دول عربية أبرمت اتفاقات مع إسرائيل لكي لا تتُركها ساحة لإسرائيل تؤلب فيها على الشعب الفلسطيني

جاءت عبارات هؤلاء، وكأن الحدث يفض للمرة الأولى العُذرية العربية بعمل غير مسبوق، وأن المسألة تتعلق بمحمد دحلان، وكأنه هو صاحب القرار في الدولة التي تستضيفه وتستضيف عشرات الألوف من الفلسطينيين. واللافت أنهم في هذا السياق، كانوا متفائلين، لأن الاستهداف هذه المرة يمكن أن ينجح في ما فشل فيه الادعاء الأردوغاني بأن محمد دحلان كان يقف وراء محاولة الانقلاب في تركيا، بينما هو لا يعرف ذلك البلد.

هذه المرة يتعلق الأمر بالإمارات التي يعيش دحلان فيها، ويثابر من خلالها على تأمين مساعدات لشعبه. وبناء على ذلك فرحوا بالحدث ولم يحزنوا مثلما شعر بالحزن، الوطنيون الذين اعترضوا.

المفارقة الغريبة الثانية، أن تكتيكات الهجوم على تيار الإصلاح، تغاضت عن الحقيقة الراسخة، وهي أن لإسرائيل علاقات دبلوماسية كاملة مع دولتين موصولتين بعصب القضية الفلسطينية، وأخرى ثالثة، وهي تركيا، التي تزايد على مصر والأردن.

معنى ذلك أن مسألة التطبيع العلني مطروقة منذ سنوات طويلة، ولم تكن تستفزهم، وبالتالي لا معنى للادعاء بأن القوم قد صُدموا، واستهجنوا أن يكون تبرير التطبيع، هو محاولة وقف العدوان الإسرائيلي وخدمة الشعب الفلسطيني.

لكن أم الغرائب، أن يأتي الهجوم والادعاء بالتطير والألم الكاذب والمرارة، من جانب الذين دافعوا عن التواطؤ الأمني مع إسرائيل، ولم يعترضوا على وصف عباس له بأنه مقدس، ولا على وصف حياة الفلسطينيين المقاومين بأنهم تحت “البسطار” الإسرائيلي.

منذ الخميس الماضي، بدأ المحتلون الإسرائيليون مناورة سخيفة، من خلال الصحافة، وبلسان نتنياهو نفسه، لكي يساعدوا الذين يريدون النيل من دحلان، ومن منتسبي تيار الإصلاح، بطريقة مخادعة قوامها امتداح دحلان، مع ذم عباس والتشكيك في قدراته الذهنية.

الهدف من ذلك واضح، وهو مساعدة الذين يريدون تثبيت الانقسام الفلسطيني، على إضعاف الرجل. فهؤلاء مستفيدون من الانقسام ويفرضون أنفسهم على المجتمع الفلسطيني ويحكمونه دون تفويض، بينما دحلان، في حقيقة أمره، لم يفكر في تجاوز الإرادة الشعبية، التي أعطته أعلى الأصوات في الانتخابات الأخيرة قبل خمسة عشر عاما.

من يتجاوزون الإرادة الشعبية، هم الذين يدمرون المؤسسات، ومن أبسط عناصر التأهل للعمل الوطني، احترام حق الناس في اختيار من يحكمونهم، ومن أبسط القناعات وأكثرها بداهة، أن الذي يقبل على نفسه وعلى شعبه النزول بالمظلة لكي يحكم، لا يكون وطنيا ولا صاحب قضية وطنية، وهذا ما يدركه محمد دحلان جيدا.

كان على نتنياهو أن يوفر على نفسه مثل هذه الألاعيب، وأن يركز على النجاة من السجن. فعندما يهاجم نتنياهو عباس يقف إصلاحيو فتح من تيار دحلان مع عباس، رغم كل ما فعل، ذلك لأنهم ناشطون وطنيون وماضون على ذات الطريق الذي سلكه مؤسسو حركة التحرر الفلسطينية. وهم ناشطون أيضا لاستعادة الجدارة والقوة لحاضنة الكفاح الوطني بشقيها منظمة التحرير والسلطة الوطنية.

إن لتركيا علاقات واسعة مع إسرائيل، وقد جر النظام التركي وأتباعه السخرية على أنفسهم، عندما تغاضوا عن العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والأمنية والتجارية بين أنقرة وتل أبيب. وكأنما الذي يهاجم الإمارات، قد فقأ بإصبعه عينه اليمنى، ولم ير بعينه اليسرى سوى الإمارات!