الحبيب الأسود يكتب:
مشروع السلام الإماراتي.. نظرة أقرب إلى الواقع
لم تتورط الإمارات يوما من الأيام، في سفك الدم الفلسطيني ولا في المتاجرة به وفي تحويل القضية إلى شعار للمزايدات السياسية، بل كانت دائما اليد التي امتدت بالعون والمساعدة للمواطن الفلسطيني، تطبطب عليه بصدق المشاعر الأخوية دون استغلال لظروفه.
الدولة المزدهرة على ضفاف الخليج، ليست في حاجة إلى دغدغة مشاعر أي كان، وإنما تبنت منذ نشأتها مجموعة من القيم، منها قيمة الواجب القومي والإنساني الذي لا تتردد في القيام به طالما استدعاها الظرف لذلك، وكذلك مبدأ التسامح المفضي بدوره إلى السلام، ليس كهدف نهائي وإنما كقيمة حضارية وثقافية تدفع نحو فعل سياسي قادر على تكريسه وترسيخه، وبذلك يكون السلام المنطلق والوسيلة والهدف.
نظريا، كانت القضية الفلسطينية، على مدى ثمانية عقود تقريبا، قضية كل العرب في المطلق، ولكن في الواقع تحولت إلى أصل تجاري للكثير من القوى في الداخل والخارج، وباسم الحق المقدس والثورة والشهداء تم التلاعب بالقضية في سوق المزايدات، وتعرض كل أصحاب المواقف السياسية الواقعية إلى الشيطنة.
ربما هناك اليوم من يذكر كيف قوبلت دعوة الحبيب بورقيبة لقبول فكرة التقسيم في عام 1965، وكيف تم تخوين السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978، بل وكيف تعرض الزعيم ياسر عرفات إلى التشويه والتشكيك في وطنيته في مناسبات عدة إلى أن قضى محاصرا ومسموما في 2004، وكيف تم تقسيم الدول العربية إلى دول ثورية تقدمية، وأخرى رجعية.
لكن الأيام أثبتت أن ما سميت بجبهة الصمود انتهت بدولها إلى الخراب، وأن ما وصفت آنذاك بالدول الرجعية هي التي تجاوزت كل العواصف وأثبتت قدرتها على الصمود الحقيقي في وجه التحديات.
خلال السنوات الماضية، وخاصة منذ حرب الخليج الثانية، شهدت المنطقة العربية زلازل سياسية أدت إلى تحييد دور أغلب دولها الكبرى والمؤثرة، وتحولت القضية الفلسطينية إلى مرتبة ثانوية في ظل اتساع دائرة الصراع الذي تديره قوى إقليمية ذات أطماع معلنة في المنطقة وبخاصة تركيا وإيران.
وانشغلت الشعوب بالتجاذبات السياسية والأيديولوجية وبأزماتها الاجتماعية والاقتصادية، نتيجة إفرازات ما سمي بثورات الربيع العربي، التي كان من بين أهدافها تعميم الفوضى الخلاقة والمزيد من تعويم القضية الفلسطينية، مقابل ترجيح كفة الإسلام السياسي في الوصول إلى الحكم.
استغل الإسرائيليون ذلك في التخطيط لضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك أجزاء مهمة من الضفة الغربية المحتلة، بينها غور الأردن، بهدف تشكيل أرخبيل من جزر منفصلة مقسّمة، تحيطها إسرائيل بشكل كامل، وغير متصلة مع العالم الخارجي، وهو ما يعني القضاء على حكم إقامة الدولة الفلسطينية، خصوصا وأن المساحة المزمع ضمها تصل إلى 30 في المئة من الضفة الغربية.
في يونيو الماضي، قال سفير دولة الإمارات بالولايات المتحدة يوسف العتيبة في مقاله المنشور على صفحات “يديعوت أحرونوت” والموجه بالأساس للنخبة السياسية والرأي العام الإسرائيليين “حتى وقت قريب، تحدث القادة الإسرائيليون بحماس عن تطبيع العلاقات مع الإمارات والدول العربية الأخرى، لكن هذا الحديث يتعارض مع خطة الضم الإسرائيلية إذ أن إعلان الضم يشكل استيلاء غير قانوني على الأراضي الفلسطينية. إنه يتحدى الإجماع العربي، بل والدولي، في ما يتعلق بحق الفلسطينيين في تقرير المصير”.
كان الموقف الإماراتي واضحا، وهو أن السلام يمكن أن يكون سلاحا هجوميا بالغ التأثير، علينا أن ندرك أن وجود الدولة العبرية في محيط معاد لم يمنعها من أن تتسع وتتطور علميا وصناعيا وعسكريا، وأن تتحول إلى قوة حقيقية لديها علاقات وطيدة مع أغلب دول العالم، بما في ذلك الدول التي يستند إليها ما يسمى بمحور المقاومة كروسيا والصين، وأن تؤثر في القرار الدولي بالشكل الذي يخدم مصالحها، وبالتالي فإن ما نأخذه بالاحتواء تحت راية السلام يمكن أن يكون أفضل بكثير من أن ننتظره من سياسة المقاطعة التي لم تقلب الموازين في يوم من الأيام.
الموقف الإماراتي جاء كذلك من فهم عقلاني لما يدور في الغرف المظلمة، فهناك قوى إقليمية كانت تتحرك في الخفاء لعقد صفقات مع إسرائيل تحت بند السلام مقابل التمكين للإسلام السياسي من السيطرة على المنطقة، الدور التركي في هذا المجال كان بارزا، والدور القطري يفضح نفسه من خلال تقسيم الصف الفلسطيني ومشروع الوطن البديل في غزة وسيناء الذي كان مطروحا على إخوان مصر قبل الإطاحة بحكمهم.
ومن خلال ربط الصلة بين قوى الإسلام السياسي في المنطقة العربية ومراكز النفوذ الإسرائيلية في الولايات المتحدة وأوروبا، أصبح اليوم الوضع أخطر، فالمشروع القطري التركي الإخواني يستهدف الجميع بغطاء أميركي متأثر بوجهات نظر إسرائيل المستفيدة من الفوضى المستدامة في المنطقة.
إن جر إسرائيل للسلام أفضل من الإبقاء عليها أداة واقعية أو افتراضية لتخريب ما تبقى من المنطقة العربية، ويعرف الإسرائيليون أن السلام الحقيقي الفعلي لن يتحقق إلا بما تدعو إليه الإمارات وشقيقاتها من دول الاعتدال من ضرورة الإسراع بحل القضية الفلسطينية، اعتمادا على أي صيغة واقعية تحترم حقوق الشعب الفلسطيني، وتنهي صراع المظلوميات الدينية التي لا يستفيد منها سوى المتطرفين من كلا الجانبين.
للأسف، يرفض بعض العرب الاعتراف بالواقع المرير الذي تمر به أمتهم؛ نصف الدول تقريبا منهارة أو فاشلة أو على باب الإفلاس، العلاقات البينية شبه منعدمة، الود مفقود والكراهية قائمة، والأطماع الإقليمية تحولت من خواطر في نفوس الفرس والطورانيين إلى احتلال فعلي.
لا أحد يتنكر اليوم لحقيقة الاحتلال التركي لشمال غرب سوريا وشمال غرب ليبيا واستباحتها لجزء مهم من شمال العراق، وبحثها عن موطئ قدم في اليمن عن طريق حضور بارز في القرن الأفريقي، واختراقها أمن الخليج بقواعد عسكرية معلنة في تابعتها قطر، واعتمادها على قوى الإسلام السياسي كحصان طروادة في التدخل في سياسات أغلب الحكومات أو التآمر عليها.
وفوق كل هذا، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا ينفي ذلك، بل يعلن صراحة أنه يتدخل هنا وهناك لحماية إرث أجداده، ولخدمة مصالح بلاده على أبواب ذكرى مرور قرن على اتفاق الإطاحة بالخلافة العثمانية التي يبشّر الإخوان من ناحية عقائدية دينية، والأتراك من جانب قومي طوراني باستعادتها.
إيران هي الأخرى لا تزال تكشف عن أطماعها وسعيها لاستعادة نفوذها الإمبراطوري القديم؛ بالتدخل المباشر في العراق وسوريا ولبنان واليمن، أو من خلال التآمر على السعودية والدول الخليجية، ووقوفها إلى جانب الدور التركي في ليبيا، واستمرارها في التجييش الطائفي، وذلك عبر آليات مالية وإعلامية وثقافية ضخمة، تستغل شعار المقاومة لتجعل منه أداتها لاختراق العقل العربي المهيأ لاستقبال المؤثرات العاطفية، دون وعي بمخاطر المؤامرة التي تحاك ضده.
ويتجلى ذلك بشكل واضح في العراق المنتهك والمسلوب، حيث يدير نظام الملالي ميليشياته المتطرفة لقمع إرادة الأغلبية الساحقة من الشعب. جرائم الاغتيال التي تعرض لها ناشطون حقوقيون وإعلاميون خلال الأشهر الماضية ليست بعيدة عن الميليشيات المرتبطة تنظيميا وعقائديا بالمشروع الإيراني، وقبل ذلك كانت هناك الآلاف من الجرائم الموثقة في حق كل من يدافع عن عروبة العراق التي تتناقض تماما مع الحالمين باستعادة الإرث الصفوي خدمة للتوسع العنصري القومي الفارسي.
إذا كان على العقل العربي أن يستفيق من غفوته، فهذه فرصته. طريق السلام هو الذي سيقطع الطريق أمام المشروع الصفوي الإيراني الذي يتخذ من عدائه المزعوم لإسرائيل وسيلته للتغلغل في المنطقة، وأمام المشروع العثماني الطوراني الأردوغاني الإخواني الذي يجعل من التودد إليها في الخفاء حصان طروادة لاحتلال المزيد من الأراضي العربية. وهو الذي سيفتح المجال أمام حل للقضية الفلسطينية بدل أن تنتهي إسرائيل من ضم ما تبقى من أراض، بينما أصحاب القضية موزعون بين متاجر بها ومأزوم لأجلها وحالم ينتظر خيول الفاتحين التي لن تأتي أبدا لتصهل في القدس والجليل.