محمد أبوالفضل يكتب:
مخاطر الانحياز في الصراعات الإقليمية
قدمت الأزمة الليبية نموذجا ودرسا لافتين للسياسيين والكتاب، وكل من يتابعون تفاصيلها، فالصراعات المفتوحة التي تتقاتل فيها أطراف عدة وتملك إمكانيات متقاربة يمكن أن تتحول من حال إلى حال دون مقدمات، لكن مراقبة العلاقات التي تدور في الكواليس قد تكون كفيلة بفهم مقاطع في النتيجة ومعرفة دوافعها.
أصبح وقف إطلاق النار الذي كان مرفوضا من جهة ووضعت له شروطا مرغوبا منها، ما جعل عملية التعويل على طرف بعينه صعبة، الأمر الذي انتبهت إليه بعض القوى مبكرا، وحاولت النأي بنفسها عن وضع كل أوراقها في سلة واحدة.
يفسر الانقلاب المفاجئ في الأزمة من زاوية القبول بوقف النار جانبا من أسباب الارتباك الذي طغى على تقديرات بعض الجهات في توازنات الحرب والسلام، وحرصت قوى إقليمية ودولية على عدم سد المنافذ والعلاقات مع أطراف بدت في العلن تعمل ضدها، لأن الفوران الطاغي في الأزمة ربما تتغير قسماته ويتم تبريده.
في ظل التعقيدات التي تعيشها ليبيا من الخطأ الرهان على قوة واحدة يمكنها حسم الصراع، ومن يتصرفون بهذه الطريقة يخسرون كثيرا، فمن سمات التوترات التي تعم المنطقة ارتفاع درجة السيولة فيها وصعوبة توقع استقرارها لصالح طرف.
مع تحرك الموازين وفوائض القوة، تبدو الأزمة غير قابلة للتحكم في مصيرها، لأن اللاعبين كثيرون، ومكونات الضغط متعددة، وتشابكات المصالح ممتدة، ما وضع الأزمة الليبية مثلا في خندق مجهول، وحسابات معقدة حالت دون التعامل معها بصرامة لتحقيق نصر في الحرب أو تذليل عقبات في عملية التسوية.
كشفت اتجاهات الأزمة، على مدار سنواتها، عن مخزون كبير من الانفتاح على خطوط متوازية، وكبحت تطوراتها الإعلان عن تأييد طرف ودعمه ماديا ومعنويا صراحة، وأسهمت في انتقال عناصر من مربع لآخر بصورة مرنة، وزادت ممن زعموا أنهم يقفون في منطقة وسط، حيث أدركوا أن القواعد الضمنية للعبة لا يصلح معها انتصار فريق نصرا فرديا ساحقا.
جرى على فترات، الحديث عن توازن الضعف أو الرعب، وضرورة إنهاك الأطراف المتقاتلة والحفاظ على مستوى من الهشاشة العسكرية يضمن عدم التفوق النهائي، وكلما تقدم أحد الأطراف يتم وضع فيتو على تصرفاته.
ظهرت تجليات ذلك في موقفين، أحدهما خلال منع دخول قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر طرابلس والسيطرة عليها تماما، لأنه يوحي بفتح المجال أمام تحكم حفتر في الحل والعقد في الدولة، والآخر الموافقة شبه الجماعية على رفض تقدم قوات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا ومرتزقتها نحو سرت والجفرة.
تدفقت مياه كثيرة في الموقفين، وتمحورت حول منع التقدم هنا أو هناك، وتوفير الذرائع المطلوبة لردع كل محاولة، والتعامل معها على أنها انتحار عسكري وسياسي يقوض الفرص في المستقبل.
وفي الحالتين، كان أحد الطرفين البارزين يوشك أن ينتصر نظريا ويجبر هو وأعوانه الطرف المقابل وحلفائه على الاستسلام والرضوخ لشروط قاسية عندما يحين وقت الجلوس حول الطاولة للتفاوض، ما يعقد العملية السياسية ويدخلها في دهاليز تمنع بلورة رؤية للأمن والاستقرار، أو تنفتح الأزمة على مصراعيها وتجد قوى إقليمية ودولية نفسها مضطرة للاشتباك العسكري فيها بلا مواربة.
فضح الصعود والهبوط في حركة القوات في ميادين المعركة هذه الحيلة، التي أدارتها قوى كبرى من وراء ستار، بدت قريبة أحيانا، وبعيدة في غالبية الأحيان، لكنها كانت منغمسة في الصراع وعلى علم بالتذبذب الذي يظهر عليه، وارتاحت للحركة البندولية التي انتابته في أوقات كثيرة، حيث وفرت طاقة لمنع حدوث تفوق حاسم لطرف.
أوضحت هذه الصيغة حجم ما يدور في السر من مؤامرات، لأن القوى الإقليمية التي تدعم أحد الطرفين الرئيسيين معروفة، وتنقلات القوى الدولية لم تكن خافية، وجزء كبير مما تم تسريبه أو توجيهه، بما فيه المشاركة في القتال كان معروفا، وعندما زادت المسألة عن حدها وكادت تتسبب في انفلات خطير حدثت ضغوط متتالية لإعادة السيطرة على مرتكزات الأزمة قبل الانفلات من عقالها.
أجادت دول عديدة لعبتي التأييد والانفتاح، فلم يلغ الأول الثاني أو العكس، بمعنى أن بعض الدول، وهي ظاهرة مثيرة في الصراعات الإقليمية، كانت تقف في جانب معسكر، ولا تمانع في إجراء حوارات مع أنصار المعسكر المضاد، أملا في الحفاظ على مصالحها، إذا انقلبت المعادلة رأسا على عقب.
عزفت دول كثيرة هذه المقطوعة على أوتار الصراعات الجارية في المنطقة، وسعت لفتح قنوات تواصل مع قوى متصادمة، بما فيها جهات تتبنى خطابات وأفكارا متطرفة، لكن وجدت أن الاحتفاظ بعلاقة غير متوترة معها يحمي جانبا من مصالحها، أو على الأقل لا يعرضها إلى انهيار كبير.
كانت سوريا ساحة كاشفة نسبيا للتحولات في مواقف الدول من القوى المتصارعة والمتحالفين معها، غير أن الصورة بدأت تتسع في ليبيا، وبات هذا المحدد من العوامل الرئيسية التي أرخت بظلالها على بعض التحركات، ففي الوقت الذي تمضي فيه التطورات بطريقة أشبه بالصدام، كانت هناك أبواب خلفية يتم الدخول منها للحوار.
من يتجهون إلى هذا الطريق يلعبون دورا مهما في مسار النزاعات، وأضحى واحدا من السمات الآخذة في التصاعد على المسرح الإقليمي، لأنه يمثل سبيلا رئيسيا لعدم التهميش، في حالة استقرار الأوضاع والشروع في ترتيب الأوراق.
يعد هذا الاتجاه المتنامي نتيجة طبيعية في مسيرة سابقة ورؤية فرضت نفسها على بعض القوى عندما تحتدم الخلافات بين الحكومة والمعارضة، حيث تلجأ إلى تفاهمات مع الطرفين، تحسبا لسقوط أحدهما وصعود الثاني.
يؤدي بطء الانحياز في الصراعات إلى زيادة تشابكاتها، وبدلا من معرفة قوامها بشكل معلن والعمل على تفكيك المصدات تتكاثر فيها الأنامل التي تعبث دوما لصالح أحد الأطراف، ما يجعلها معلقة في رقبة من يحركون أناملهم يمينا ويسارا.
تبقى الأزمات تحت رحمة من يريدون لها الاستمرار أو التوقف، فطالما لا توجد قوة محورية تستطيع فرض كلمتها سوف تتواصل المراوحة، ولذلك من الممكن أن تستمر الصراعات الإقليمية سنوات طويلة، لأن ضبط توازن الضعف الطاغي عليها عند اختلاله يكبل الجميع، ولا يسمح بالفكاك أو الحسم سريعا، ويجبر أصحابه عند لحظة فارقة على الانحناء للعاصفة.