مصطفى النعمان يكتب:
الاتفاق والتسريع لا يكفيان
بعد معركة شرسة مدمرة ومقاومة استمرت ثلاثة أشهر، تمكنت قوات التحالف العربي بمساندة من المقاومة المحلية في مدينة عدن من إخراج الميليشيات الحوثية منها، ومن المناطق التي تؤدي إليها، وحينها توقع الكثيرون أن يتم العمل داخلها بهمة وبسرعة لتثبيت الأوضاع الأمنية وتحسين الخدمات المنهارة بهدف جعلها نموذجاً يأمل الناس في محاكاته بالمناطق التي سيطر عليه الحوثيون بعد 21 سبتمبر (أيلول) 2014، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث بسبب سوء إدارة المدينة والتزاحم داخلها حول أحقية قيادتها والانشغال في تثبيت زعامة محلية بدلاً من لملمة الصفوف وتوحيدها لتأمين ساكنيها الذين هجروها خشية تعرضهم للنيران الصديقة والعدوة التي كانت تغطي المدينة طيلة أشهر الحرب.
للأسف الشديد ضاعت الفرصة التي تمناها المواطنون في عدن وخارجها بعد خروج الميليشيات وتمناها المواطنون بعد الوعود الكثيرة حول إعادة التعمير وتشغيل الميناء وتحويل عدن إلى عاصمة موقتة مؤمنة يقيم فيها الرئيس هادي والحكومة، لكن الأمنيات لم تتحقق بسبب الصراعات وتعدد الولاءات داخل "الشرعية"، فتمّ استحداث وحدات عسكرية وأمنية موازية لتلك التي تخضع لوزارتي الداخلية والدفاع بدلاً من العمل على توحيدها. وصار الأمر أقرب إلى سباق بينهما للسيطرة على المدينة التي تحولت لساحة معارك مفتوحة، ولم يتمكن المسـؤولون من البقاء طويلاً في العاصمة الجديدة، ونسي حَملة السلاح أن هناك مواطنين لا يعنيهم من يسيطر بقدر اهتمامهم بمن يؤمّن ويعطي فرص عيش كريم.
ولا ننسى أيضاً الحملات الظالمة التي طالت كثيراً من اليمنيين، ثم قطع الطرق المؤدية إلى المحافظات الشمالية، وأدت إلى تسميم الأجواء بين أبناء وطن واحد يحق لهم العيش والعمل حيثما رغبوا.
وكان من النتائج المباشرة لهذا الارتباك تعثر كل المحاولات للنهوض بالخدمات، وزاد من عمق المشكلات الغياب الطويل الطوعي، للرئيس والحكومة، عن الناس ومتابعة أحوالهم وانشغال المسؤولين بقضايا جانبية تافهة واحتدام الصراع حول النفوذ وانتشار الروايات الموثقة وغير الموثقة عن الفساد واستغلال الوظيفة العامة واحتكارها على الأقارب والمقربين، ولكن الأكثر خطورة كان أن ابتعد الجميع وتناسى تنفيذ الشعارين الأثيرين لـ"لشرعية" وهما، "استعادة الدولة" و"دحر الانقلاب"، اللذان رافقا كل بيانات "الشرعية"، فصارت جبهات الصراع بين مكوناتها ومعاركها غير مرتبطة بما هو معلن وغاب عن القائمين عليها مهمتهم الحقيقية.
وعند خروج الحوثيين من عدن وبقية المحافظات الجنوبية وتلقيهم خسارة بشرية مذهلة، كان من المؤمل أن يتمّ التركيز على الملف السياسي عبر مبعوثي الأمين العام للأمم المتحدة، وهو ما حدث في الكويت وسويسرا، وجرت جولات بعضها طويل وبعضها قصير، ولم تصل كلها إلى نتيجة إيجابية تضع اليمنيين على مسار وقف نهائي للمعارك، واستمر النزيف والدمار، وتزايدت الأحقاد والكراهية على المستويات كافة داخل كل منطقة وبين المناطق، ونتيجة لذلك تدهورت الحالة المعيشية للناس وانهارت قيمة العملة وغابت المحاسبة على أداء المسؤولين الذين فضل معظمهم الهروب مع أسرهم على الوجود في الداخل، ما أدى إلى سوء الخدمات بمختلف أشكالها وزيادة إحباط الناس.
وكان من الطبيعي أن يصبّ الناس جمّ غضبهم على "الشرعية"؛ إذ إنه على الرغم من الاقتناع بمسببات الأزمة منذ البداية في 21 سبتمبر (أيلول) 2014 حين استولى الحوثيون على كل مؤسسات الحكومة المركزية، فإن ذلك لا يعني أن يغضّ الناس أبصارهم عن الكيان الذي توخوا أن يشكل نموذجاً بديلاً أفضل حالاً، وهو ما لم يحدث حتى الآن، بل على العكس من ذلك، لحقت به اتهامات بالفساد تحدث عنها كل المرتبطين بها، ودارت نقاشات طويلة بينهم للتوصل إلى إعادة تشكيل بنائها على أسس مختلفة لخلق كيان يعيد للناس الثقة بها، وهو ما لم ولن يتمّ لأنه من المحتم أن استخدام الأدوات والآليات نفسها سيعيد إنتاج المخرجات نفسها.
إن التمسك بالشعار القديم "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" لم يعد صالحاً اليوم، والأجدر هو إعادة النظر في أسلوب الحكم كاملاً، وهو ما يستدعي بداية تغيير الأدوات التي أدارت المشهد اليمني منذ عام 2012، وكانت سبباً رئيساً في فشل تحقيق الانتقال السياسي السلمي، بل إنها هي التي مهدت بتخاذلها، وربما تفاهماتها، الطريق للحوثيين لإحداث الانقلاب على كل الاتفاقات التي سبقت 21 سبتمبر 2014، ولا أجد حالياً ما يبعث على التفاؤل بأن هذه الشخصيات والأحزاب قادرة على إعادة تدوير نفسها بطريقة إيجابية تغير من منهاج الحكم.
ينتظر الكثيرون منذ الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 حدوث فعلٍ إيجابي يعيد إليهم شيئاً من أمل في ممثلي "الشرعية"؛ لعلهم يبرهنون أولاً على رغبتهم بالعودة إلى الداخل للعيش بجوار المواطنين، ومن دون هذا، فلن يكون مفيداً إطلاق الشعارات والبيانات المخدرة، ومما يبعث على الضيق والضجر والإحباط عند الناس هو طول المدة التي يستغرقها تشكيل الحكومة لأنه تعبير يقيني عن خلافات ذاتية بحتة بعيدة عن مصالح المواطن، بل إنها أدمنت التعثر داخل مساحة ضيقة من الحسابات الحزبية والمناطقية، فلم يتمكنوا من الارتفاع إلى منسوب الوطنية التي تُخرجهم من دائرة البحث عن حقائب، لمجرد الاستفادة من مزاياها، إلـى الوصول للمصلحة الوطنية الجامعة؛ لأن الجميع يعلم أنهم لا يمثلون ثقلاً انتخابياً معتمداً.
ولقد خلق "اتفاق الرياض" صعوبات عملية تعيق تنفيذه، فعلى الرغم من أنه ضمن إعادة المناصفة بين الشمال والجنوب في المواقع الوزارية فإنه جعل توزيعها عملية حسابية معقدة، وفرض أن يكون على خطوط شمالية جنوبية من دون التفات إلى الارتباطات التي جعلت الأحزاب عاجزة عن توزيع حصتها شمالاً وجنوباً، وإنه لمن المبالغة الترويج بأن "الاتفاق" يمثل طوق نجاة لليمن والمنطقة، ما لم يصاحب ذلك حضور جاد داخل البلاد وبين الناس للمكونات السياسية كافة، والتوقف عن تجاهل معاناة الناس ومتاعبهم، ويجب توقف كل من يعيش في الخارج بأمان مع أسرته عن الاستجداء والتوسل لاستمرار الحرب والإشادة بالقتلى وشجاعتهم لأن المنطق الأخلاقي يحتم عليهم حينها العودة إلى الداخل والاقتراب من ويلات الحرب والتعرف إلى نتائجها.
"الاتفاق" و"التسريع" يحتاجان إلى إرادة سياسية ترتفع فوق الصغائر مبتعدة عن فكرة المحاصصة؛ لأن الصراع الحالي الدائر بين غالبية القوى التي تتحكم بالمسارات الحالية مرتبط بصبغة ذاتية أكثر من كونه تعبيراً عن حالة وطنية راغبة وقادرة على الانتقال بالوطن نحو تسويات لإنهاء الحرب والدخول في مرحلة المصالحة الوطنية الشاملة على أساس المواطنة المتساوية والقانون الواحد، وقبل ذلك وبعده، فاليمنيون الذين يعانون بالداخل والخارج بحاجة إلى البحث في وسائل للنجاة من سيطرة الأدوات التي تحكمت بمصيرهم طيلة ثماني سنوات، ولم تنتج إلا هذه المأساة التي طالت كل بيت يمني وخليجي.