محمد أبوالفضل يكتب:
الدولة التركية تفقد المصداقية مثل البشر
تشبه الدورات التي تمر بها الدول دورة حياة البشر، كما قال عالم الاجتماع العربي عبدالرحمن بن خلدون، حيث يولد الإنسان ويكبر ويشيخ ويموت، وكذلك الدول، مع فارق بالطبع في المدة الزمنية والتوصيف. فالدول قد لا تموت بالمعنى الحرفي، لكنها تتفكك ويختفي حضورها الرمزي من على الخارطة السياسية.
توجد صفات مشتركة عديدة مثل، القوة والضعف، والتحضر، والتخلف، والتطور والركود، وما إلى ذلك من منظومة تستخدم كمعيار دقيق لرسم الشكل المناسب في كل دولة، وتلعب دورا مهما في تكوين صورتها أمام العالم.
فات على البعض التركيز في المعاني البعيدة التي حملتها مقارنة ابن خلدون منذ حوالي سبعة قرون، وعلاقتها بصفات البشر القيمية، كالصدق والكذب، والمكر والخداع، والثقة والشك، والحقد والغل، والتذبذب والثبات في المواقف، وغيرها.
عندما وضع الإيطالي، نيكولو دي برناردو دي مكيافيللي، كتابه “الأمير” منذ حوالي خمسة قرون، كنوع من التنظير السياسي الواقعي وتوجيه نصائح للحاكم، لم يكن يدري أن عبارته الشهيرة “الغاية تبرر الوسيلة” سوف تلقى رواجا في العالم حتى الآن، وتصبح قاعدة ذهبية في بعض الدول، حيث تستخدم وسائل غير أخلاقية وعلى نطاق واسع كي تتمكن من تحقيق أهدافها، مثل الكثير من البشر.
ذهب مكيافيللي إلى حال سبيله منذ نحو خمسة قرون، وترك لنا ميراثا سياسيا يستغله البعض اتباعا لنهجه وتعاليمه ودروسه، وتطورت فكرته في توظيف أبشع الوسائل للوصول لأبشع الأهداف، وحملت معها أقذر الخصال التي يمكن أن يتحلى بها إنسان.
أعلم أن تعاملات الأنظمة والحكام والدفاع عن المصالح لا مكان فيها للبراءة السياسية والفطرة والنوايا الحسنة، وكل القيم النبيلة التي يتمتع بها المرء السوي، وأي دولة من حقها أن تستخدم الأدوات التي تراها مناسبة طالما تحقق لها مراميها المرجوة، أو الأغراض التي يسعى إليها الحاكم، كان ديمقراطيا أم دكتاتوريا.
يمكن فهم الكثير من الصفات غير الأخلاقية في العلاقات بين الدول في سبيل الحفاظ على المصالح العليا، التي غالبا ما تتدثر بالمُثل وتتمسك بالقيم السائدة، فلا يوجد حاكم دولة يعترف أنه مدلس حتى لو كان التدليس نظام حكم، ويظهر بوضوح في الأدبيات التي يستخدمها، ويضطر إليه للحصول على مكاسب، ودرء خسائر، وتفادي ضغوط.
تأتي المشكلة عندما يكون التدليس والكذب والنفاق فاضحا وأسلوب حياة، فتصعب المداراة على التصرفات التي تصاحب ذلك، وينسحب فقدان الحاكم للمصداقية على الدولة برمتها، فهو رأسها وعلامتها السياسية، بصرف النظر عن مدى شعبيته وحدود المعارضة التي تطوق رقبته.
مهما اختلفت الشعوب المحترمة مع القيادات الحاكمة ولفظت التجاوزات التي تقدم عليها ووضعت في صورة قاتمة، يصعب على قطاع من المواطنين تقبل بسهولة إهانة الحاكم أخلاقيا، ففي النهاية هو عنوان للدولة، ومهما كان ميراثه سيئا سوف يُدمغ به الوطن سنوات طويلة، فالذاكرة الآن أسهل في حفظ واستدعاء التاريخ.
لدينا نماذج كثيرة، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، يمكن القياس عليها بدرجات متفاوتة في معادلة الأخلاق بين الدول والبشر، حيث تنسحب صفات الحاكم إلى وطنه أيضا وبصورة كبيرة، ما يشكل خطورة على الشعب، خاصة إذا كان مغلوبا على أمره، ولا يستطيع التخلص من حاكمه سياسيا، ويظل قابعا في مقعده لفترة طويلة.
يجسد نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نموذجا كاشفا لجملة من المعطيات السابقة، فالرجل وحاشيته يكذبان، ولا يتورعان عن استخدام أدوات بلطجة وتشبيح وغطرسة، أصبحت منهجا في إدارة السلطة. وعندما يحاولان التجمل سياسيا يعودان سريعا إلى السيرة الأولى، ويذهب الخطاب الذي يبدو عاقلا أدراج الرياح.
من يرصد التعامل التركي مع الخصوم في المنطقة، مثل دول الرباعي العربي، مصر والسعودية والإمارات والبحرين، فضلا عن اليونان وقبرص وفرنسا، سيجده فاقدا لجزء معتبر من المصداقية، ولا يثبت على حال. يبدل ويغير في تقديراته ويتأثر كثيرا بالتطورات السياسية. فاليوم يثني على هذه الدولة وغدا يرجمها، وقد تصدر عن أنقرة إشارات صادقة فعلا، لا تلقى صدى من الجانب الآخر.
التصقت الازدواجية والتناقضات والتذبذب بتركيا أردوغان، وبات من الصعب التغيير، حيث جاءت مصحوبة بوقائع دامغة، وفي مجالات مختلفة، ولم تستطع الدولة التغطية عليها أو منع افتضاح أمرها، وضبطت متلبسة بجريمة الكذب مرات عدة، وتحولت حبال الود الممدودة إلى فرية لا تجد من يتقبلها أو يريد التجاوب معها.
ثمة قائمة طويلة من الأحداث والشواهد تدعم الرياء، الذي تتحلى به القيادة الحاكمة في أنقرة، وظهرت على سياساتها من شرق البحر المتوسط إلى أزمات سوريا والعراق وليبيا، وأرمينيا وأذربيجان، مرورا بالعلاقة مع إسرائيل وما يكتنفها من نفاق، ودعم التطرف والإرهاب واحتضان الإخوان، وصولا إلى العلاقة مع إيران.
ليست هناك ضرورة لإعادة سرد مواقف تثبت عدم الثقة، التي تشترط دول كثيرة توافرها عند التفكير في الحوار مع تركيا، لكن من المهم التطرق إلى تأثيرات هذه الحالة بعد تنامي الضغوط على أنقرة، وارتفاع مستوى رفض الدور الذي قامت به في المنطقة، فرصيد الصمت والتقاعس والتراخي آخذ في التراجع، وبعض المهام التي قامت بها لأهداف معينة أوشك رصيدها على النفاد.
من المتوقع أن تحتاج دولة تركيا إلى استدارة قوية الفترة المقبلة، ففكرة شرطي المنطقة التقليدية لم تعد مجدية، ولا تستطيع القيام بها أصلا، لأن هناك إمكانية لتتحطم على أعتاب قوى أخرى رافضة لقيامها بهذا الدور، وأثبتت الإجراءات التي اتخذتها في الكثير من البؤر الملتهبة واقتربت منها صعوبة تحمل نتائج المجابهة الحاسمة.
تستلزم الاستدارة تقديم “عربون” أو مقدم سياسي يثبت الجدية وعدم النكوص، هكذا يحدث بين البشر عندما يتخاصمون ويتصالحون، ويكون أحد الطرفين معتديا ومغامرا وكاذبا، حيث تُطلب منه ضمانات لتأكيد الجدية والرغبة الحقيقية في المصالحة.
تحتاج رسائل التهدئة التي توجهها الدولة من وقت إلى آخر لكل من مصر وفرنسا واليونان، تقديم خطابات لحُسن النوايا شبيهة بالبشر، فما أن تحمل رسالة معالم إيجابية إلا وسرعان ما تلحقها بثانية وثالثة مليئة بالعبارات السلبية.
دفع الرياء بعض الدول إلى عدم التعامل بجدية مع تأويلات أنقرة، وهي تصر على إعلان ما يبدد المخاوف من استمرار الخداع. وما يبدو مرونة هو انحناء لعاصفة أو هروب من مواجهة قادمة، حتى فقدت الدولة مصداقيتها مثل الكثير من البشر.