هيثم الزبيدي يكتب:
كورونا والتقشف والتوطين تضغط على الخليج
من الصعب تشخيص طبيعة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها منطقة الخليج. فثمة مؤشرات متناقضة تبرز من اقتصاداتها يصعب على المراقب تحليلها، خصوصا عندما يختلط السياسي والنفسي مع الأرقام. لا شك أن تلك العوامل مهمة وتؤثر في اقتصادات العالم، ولكن دول الخليج كانت بمنأى نسبي عنها بحكم وجود العامل الموازن المهم وهو عوائد النفط. في دول كثيرة في العالم قد تتأثر الأسواق والتجارة بصعود سياسي أو تولي حزب للحكم، أو أن يتأثر قطاع الأعمال بحكم عوامل نفسية شعبية، لكن الخليج كانت لديه مناعة عالية من هذه التقلبات. ربما إلى حدود وصولنا إلى الأزمة الحالية.
من قبل انتشار وباء كورونا، كان الخليج يعيش وضعا اقتصاديا ضاغطا بسبب تراجع أسعار النفط. سعر برميل النفط اليوم هو ثلث ما كان عليه قبل سنوات. وصل السعر إلى حوالي 120 دولارا، ولكنه لم يستقر عند ذلك المعدل طويلا. أسعار النفط، كما لا يخفى على أحد، هي ضحية نفسها. ارتفعت فصار إنتاج النفط الصخري مربحا، واندفعت الشركات الكبرى في الاستثمار في إنتاج النفط الصخري أولا، وفي تحسين تقنيات استخلاصه ثانيا. وجاءت تقنيات تخفيض الاستهلاك لتزيد من الأزمة، إذ لم ينم الطلب كما كان متوقعا. تخيل خارطة قارة مثل أوروبا وأنت تحلق فوقها ليلا بالطائرة واستبدل كل لمبة نور في عمود إضاءة في الشارع بواحدة مصنوعة بتقنية أل إي دي، لتتخيل التوفير في الطاقة. القارة الأوروبية اليوم تضاء بـ10 في المئة فقط مما كانت تستهلكه شوارعها. بقية الحسبة معروفة في كل إضاءة منزلية وشاشة تلفزيون ومحرك سيارة يعمل بكفاءة عالية. صرت اليوم تجد سيارة مرسيدس كانت تدار بمحرك بحجم 3000 سم مكعب، أصبحت شبيهتها البيئية تدار بمحرك أقل من 1500 سم مكعب.
ما أخّر حدوث المشكلة هو نمو الطلب في الصين والهند والكثير من الدول التي تعرفت على نهم الطاقة متأخرة. لكنها دول فقيرة بالأصل، وتعودت على القليل ولم تتمكن من تعويض الفارق في الاستهلاك الغربي. واستمرت مراوحة الاستهلاك حول نفس المعدل، مع زيادة في الإنتاج من النفط القديم ومن النفوط الصخرية المستحدثة. النتيجة كانت تراجع الأسعار، وفي بعض الأحيان تهاويها. العالم في هذه الفترة أيضا تعرف على الغاز الطبيعي أكثر ودخلت دول منتجة له إلى السوق بقوة.
صراعات أوبك معروفة، والخلافات داخل الكارتيل النفطي يختلط فيها السياسي مع العناد مع خروج دول بكاملها من الإنتاج لسنوات كما حدث مع العراق، ودخول ما يعادل إنتاج دول ثانية من معروض تقدمه دولة عملاقة في الانتاج مثل السعودية. الروس دخلوا اللعبة وصار الصدام حتميا مع السعودية. الإغراق والسيطرة على الحصص والأسواق هما شكل أوبك وأوبك+ التي برزت بعد دخول عدد من الدول غير الأعضاء في المنظمة بيت الطاعة.
قبل أن تمسك أوبك+ بزمام الأمور جاءت الجائحة وبقية القصة معروفة. لا أحد لديه تقدير أولي عن موعد الخروج من أكبر أزمة ركود اقتصادي في التاريخ الحديث. ولا أحد لديه قراءة لما ستؤول إليه النتائج على المدى المتوسط والبعيد.
انعكست هذه المعطيات على المزاج العام في الخليج. بدأت إجراءات التقشف وتقلصت الميزانيات وصمت الحديث عن تنويع مصادر الدخل. المحرك الاقتصادي للمنطقة هو العائد النفطي والإنفاق الحكومي لهذا العائد. كانت بعض دول الخليج محظوظة لأنها استفادت من النافذة المالية التي أتيحت لها وشيدت بنى تحتية متينة ومعمرة، لكن دولا أخرى أصيبت بالصدمة.
مع التقشف، بل ومن قبله أيضا، بدأ تسريح العمالة الوافدة. الحديث عن توطين الوظائف مستمر منذ أكثر من عقد. الافتراض القائم أنك تستطيع أن تقلل من الإنفاق الحكومي ومن التحويلات الخارجية ومن الهدر عبر استبدال العمالة الوافدة بعمالة مواطنة. بعض الدول لن تتمكن من هذا بالمطلق لأسباب ديموغرافية بحتة، فمن الصعب عليها توفير الملايين من الأيدي العاملة من البدائل وهي سكانيا ما تحت المليون نسمة. البعض الآخر يراهن على تدريب مواطنيه وتحويل وجهة تطلعاتهم العملية نحو أعمال غير مكتبية. لا يزال من المبكر الحكم إن كان استبدال بائعات وافدات في محلات العطور في الرياض بأخريات من بنات البلد هو الحل لمشاكل البلد الاقتصادية.
ثم هناك مشكلة الرواتب للمواطنين. الحكومات الخليجية منحت مواطنيها رواتب عالية بالعموم، خصوصا عندما كانت الوفرة المالية في ذروتها، وتجد نفسها اليوم أمام استحقاقات الاستمرار بنفس المعدلات. ثمة رواتب في منطقة الخليج عالية بكل المعايير العالمية. من النادر أن تجد موظفا في أوروبا يزيد راتبه على ما يعادل 10 آلاف دولار لا يدفع منها ضريبة. من المألوف جدا أن ترى موظفا مواطنا في الخليج براتب أكثر من 15 ألف دولار يدفع عنها أي ضرائب حقيقية. الميزانيات الحالية يمكن أن تستمر في دفع الرواتب على المدى المنظور لهؤلاء الموظفين، لكن الكثير من الموظفين في طريقهم إلى مشاكل مالية عويصة كان ارتفاع الرواتب جزءا كبيرا من أسبابها.
المواطن الخليجي تاجر (أو رجل أعمال بالمصطلح الحديث) بطبعه. عندما وفرت له الدولة راتبا مرتفعا، وأعطته منحة بناء وقطعة أرض ورعاية صحية ومدارس مجانية، وجد وفرة من المال بين يديه. كان هناك الملايين من الوافدين ممن يحتاجون إلى السكن ولن يكون بوسعهم التملك في معظم دول الخليج. وفر المواطن قليلا وبدأ مشروعه العقاري بدعم من تمويل مصرفي سهل وميسر. أي مصرف يرى زبونا راتبه 30 ألف دولار شهريا، سيكون مستعدا لمنحه التسهيلات والقروض. انتشر البناء السكني والتجاري، فالوافدون يسكنون ويعيشون ويأكلون ويتنزهون. كانت المعادلة رابحة. مبنى تتزايد قيمته، وعائد من الإيجارات يغطي فائدة القرض ويزيد. الراتب في الجيب.
ثم جاء التوطين. بدأت المباني تفرغ أو يضطر أصحابها، أمام ضغط تسديد القروض، إلى تخفيض الإيجارات. بقيت الحسبة مقبولة طالما أن العائد بقدر أقساط القرض. لكن الضربة الثانية جاءت مع كورونا. انخفضت العائدات إلى ما يعادل نصف القرض أو حتى أقل لأن الساكنين إما رحلوا أو يعجزون عن دفع الإيجارات كلها أو جزء منها. صار العائد أقل بكثير من استحقاقات القرض، وصار على المواطن الموظف أن يقتطع من راتبه ليعوض الفرق. إلى اليوم، يبدو من الصعب الحكم على ما سيحدث من مشاكل لأن الدول صارمة في منع البنوك من الإمعان في الضغط على الذين يعانون من عسرة مالية في السداد. بعض العواصم التي بالغت في بناء المكاتب قبل 10 سنوات، وبدأت في تحويل المباني التجارية إلى شقق سكنية، توقفت الآن عن الاستمرار بهذا المنحى، فالوافد إما غادر أو لا يتمكن من الدفع. مبان كثيرة فارغة، تجارية أو سكنية.
هذا هو العامل النفسي السلبي السائد والذي انعكس على حركة الأعمال اليوم في الخليج ويعطي الإحساس بأن الأزمة كبيرة. والفارق كبير، ليس في سعر النفط فقط، فدول الخليج كانت ثرية جدا عندما كان النفط بعشرين دولارا، ولا يزال سعر 40 دولارا الحالي مجزيا مع رخص كلفة الإنتاج. الفارق في مشهد أزمة تتداخل.
هل يوجد حل وسط الآن يواجه تداعيات كورونا والتقشف والتوطين مجتمعة؟ هل يوجد إجراء يهدئ من روع المواطن والوافد على حد سواء؟ لا انتظار رحيل كورونا لوحده هو الحل ولا زيادة التقشف هو الحل ولا انتظار معجزة صعود أسعار النفط هو الحل ولا تشجيع الوافدين على المغادرة هو الحل. إن الأمر يحتاج إلى مراجعة شاملة وهادئة في بلاد تدرك أنها ستبقى ثرية وأنه من المهم مواجهة العامل النفسي قبل اتخاذ الإجراءات الاقتصادية.