محمد أبوالفضل يكتب:
هل فكر الفلسطينيون في آلية للتعامل مع إسرائيل
أدان فلسطينيون وشجبوا ورفضوا توجهات بعض الدول العربية لإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، ولم يفكروا جيدا كيف يتعاملون معها في ظل تطورات إقليمية متسارعة. فالسيولة التي وجدت فيها بعض الفصائل الفلسطينية فرصة لممارسة هواياتها السياسية والعسكرية لن تستمر طويلا، وأصبح مطلوبا منها تحديد الخيارات للفترة المقبلة.
تمر القضية الفلسطينية بمنعطفات وتحديات متعاظمة في هذه المرحلة، بفعل التفاعلات والنتائج الناجمة عن استمرار قطار معاهدات السلام بين دول عربية وإسرائيل، ما يفرض على القوى الوطنية في فلسطين البحث عن آليات للتعامل مع واقع من المنتظر أن يحفل بتحولات في التوازنات التي خبرها العرب على مدار العقود الماضية.
لن تنصلح الحال الفلسطينية برفض كل ما يجري من تطورات عربية مع إسرائيل وكفى، ولن يتم حل القضية الأم في المنطقة بتبادل الاتهامات وترديد قاموس حافل بمفردات الخيانة والعمالة والمهادنة.
تلجأ كل دولة إلى الطريق الذي تجده يحقق مصالحها، وعلى القوى الفلسطينية التريث والتباحث حول أوجه الخلل الداخلي، الذي أفضى إلى هذه المعادلة، فهي تتحمل جزءا كبيرا منها، بعد أن انهمكت حركات عديدة في تراشقات ومناوشات، وشدّ وجذب، بدلا من التوافق حول أجندة وطنية لتصفية الحسابات مع إسرائيل.
لم يعد اللوم مفيدا، وطرح أسئلة وجودية من نوعية من أخطأ ومن أصاب، ولماذا التطبيع مع إسرائيل، وكيف يتمّ ذلك؟ لن يجدي ذلك قبل أن يسأل الفلسطينيون أنفسهم عن المآل الذي وصلوا إليه، ويهتدوا إلى الإجابة المقنعة ليبنوا عليها، وليست صعبة، فقد تغوّلت إسرائيل عندما تجذرت الخلافات، واتجهت دول عربية للتطبيع معها عندما وجدت لا أمل في توحيد الصف الفلسطيني.
ليس المقصود تبرير تصرف سياسي لأحد، أو إدانة فصيل معين، المقصود الجلوس للتفكير بهدوء في مصير قضية محورية، كل يوم يمرّ على هذه الحال سيتم خصم الكثير من رصيدها، والمفترض أن تدرك القوى الوطنية الحقيقة وتستنهض همتها في الكلام الجاد، وتتوقف عن ترديد ما تجاوزه الزمن.
يؤدي التعايش مع الحالة المزرية الراهنة إلى سدّ الأبواب أمام ما تبقى من بصيص أمل للوحدة والتلاحم والتكاتف، ويقود إلى المزيد من الخسائر، فاللغة الخشبية التي يتم استخدامها لا تصلح في تحرير فلسطين، أو تدفع إسرائيل إلى التخلي عن تصرفاتها.
من المفيد تغيير الأوضاع الحالية عبر صياغة رؤية رصينة، والابتعاد عن لعبة التنقل بين المحاور، فالمعسكر التركي – القطري، الذي يتبنى خطابا متشددا في الظاهر وينفتح على إسرائيل في الباطن، سيعيد تكرار ما فعلته سوريا بالقضية المركزية، ويدفع بما تبقى إلى غياهب النسيان، ويفضي إعلاء المكونات الشخصية والفصائلية إلى القضاء تماما على حلم الدولة الفلسطينية.
تستطيع القوى الوطنية أن تثبت جدارتها وقدرتها على تحمل المسؤولية في أحلك الظروف، إذا حددت خيارها في التعامل مع إسرائيل، وانتقت الوسائل اللازمة للتعامل مع الأحداث الجارية، ووضعت أجندة واضحة لتقليل الخسائر.
الحال الفلسطينية لن تنصلح برفض كل ما يجري من تطورات عربية مع إسرائيل وكفى، وحل القضية الأم لن يتم في المنطقة بتبادل الاتهامات وترديد قاموس حافل بمفردات الخيانة والعمالة والمهادنة
هناك طريقان معروفان أمام هذه القوى. طريق الحرب، وطريق السلام، لكل منهما استعدادات ومتطلبات وتكاليف، ولم تعد المراوغة بين الطريقين مجدية، ولعبة توزيع الأدوار أخفقت منذ رحيل أبوعمار، وفشل من جاء بعده في إتقانها، بالتالي من الضروري رسم خارطة محددة تفيد في استرجاع حقوق الشعب الفلسطيني.
يستلزم طريق الحرب، أو المقاومة بأنواعها، إجماعا وطنيا، واتخاذ إجراءات عديدة لتفعيله، واختيار منظومة مترابطة، ورفع مستوى التنسيق بين الفصائل إلى أعلى مستوى، وتحديد الأدوات المستخدمة وسط انحراف شديد في توازنات القوى لصالح إسرائيل، بمعنى رسم خارطة طريق من قبل قادة الفصائل تحظى بإجماع سياسي.
إذا تأكدت القوى المختلفة أن هذه الوسيلة لن تحقق أهدافها، أو تترتب عليها تكاليف باهظة لا تتناسب مع حجم التضحيات عليها ضبط الدفة في الاتجاه المقابل، طريق التفاوض، فلم يعد العالم يقبل بسياسة الأداتين، أي المقاومة والسلام معا، ولم تعد إسرائيل مضطرّة إلى الصبر على هذه الصيغة عقب نجاحها في تطوير علاقاتها العربية.
يفرض سيناريو التفاوض التحلي بقدر من الموضوعية، والاستثمار في فكرة أن دولا كثيرة لا تزال تعترف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، وتستنكر الممارسات الهمجية التي تقوم بها إسرائيل، وقدرتها الفائقة في اغتصاب الأراضي المحتلة، لأن الجمود والانقسام والتشرذم في التعاطي مع المتغيرات يمنح إسرائيل أكثر ممّا تحلم به، وهي التي حققت أعلى مكاسب مع تصاعد حدّة الاستقطاب والخلاف.
تأتي نقطة البدء، حربا أو تفاوضا، من رحم المصالحة أولا بين القوى الفلسطينية، وعدم اللجوء إليها كوسيلة مناورة وتخطي عقبات، أو ليثبت كل طرف أنه حريص على اللُحمة الوطنية في غرفة المحادثات، بينما يتصرف بمجرد خروجه منها بشكل عكسي، وهي طريقة أهدرت نحو 15 عاما من البحث عن مصالحة بلا طائل.
تكاد معالم هذه اللعبة تكون قد انتهت أو فقدت مفعولها السياسي، وكل طرف مطلوب منه أن يتحمل مسؤوليته بجلاء، ويبتعد عن التعامل مع القضية الفلسطينية وكأنها مطية لتحقيق أغراض حركية وأيديولوجية، فالرقعة التي كانت بعض الفصائل تتنقل بينها ضاقت، وربما تضيق أكثر في المرحلة المقبلة.
يمكن للقوى الفلسطينية أن تكون جزءا من المنظومة الجديدة في التعامل مع إسرائيل، وتحاول أن تنفتح على الدول التي سلكت هذا الطريق بدلا من الدخول في خصومة معها، لأن جلها لم تنكر الثوابت الرئيسية في القضية الفلسطينية، والتي تتمسك شعوب عربية كثيرة بها، قبل أن يتأزم الوضع عندما تتوالى حلقات الانخراط في علاقات طبيعية مع إسرائيل.
يحرص الخطاب السياسي لهذه الدول على الاستمرار في دعم القضية، ويمكن أن تمثل له القوى الفلسطينية رافعة حيوية في هذا المجال، وتمنحه هامشا جيدا للضغط السياسي على إسرائيل، والسعي إلى الاقتراب من تطبيق النموذجين المصري والأردني، اللذين لم يؤدّ توقيع كليهما على معاهدة سلام إلى التنصل من مسؤوليتهما العربية.
يسهم التفكير بدقة في التصورات المستقبلية لخارطة المنطقة وحجم الغموض الذي يمكن أن يكتنف الأوضاع الفلسطينية في تبني خيارات عملية، لأن عهد الشعارات الرنانة وتحريك الشوارع العربية من المحيط إلى الخليج لم يعد مجديا، كما أن كثافة الصراعات والتهديدات في المنطقة العربية أثرت سلبا على القضية الفلسطينية.
يضر من يحاولون اختراع العجلة والعودة إلى الوراء كثيرا بها، وعليهم النظر إلى ما كانوا عليه وما أصبحوا فيه، واستخلاص العبر لمعرفة أين هم في المستقبل، لأن الاستسلام لأفكار عقائدية حول مكانة إسرائيل يضع على كاهل الشعب الفلسطيني ضغوطا أكثر.