محمد أبوالفضل يكتب:
قاموس ترامب السياسي ينضح بفوضى الأنظمة الشمولية
أبدى متابعون قلقهم من تقويض النموذج الديمقراطي الذي تتسم به الولايات المتحدة على خطى دول عرفت بتزوير الانتخابات وأعمال عنف، وذلك منذ إعلان المرشح الجمهوري دونالد ترامب النصر قبل الأوان وحديثه غير المدعوم بأدلة عن التزوير، ومن الدعاوى القضائية التي أقامها ما ينبئ بأن حالة من عدم اليقين ستخيم على أكبر قوة في العالم بمجرد الإعلان النهائي عن نتائج الانتخابات الرئاسية، كما سيسهم خطاب ترامب الشعبوي في تعزيز الانقسامات داخل المجتمع الأميركي.
تبدو الكثير من الأنظمة الشمولية التي درجت على تحويل الانتخابات إلى مسرحية عبثية، أكثر سعادة بقاموس المصطلحات الشعبوي الذي استخدمه المرشح الجمهوري دونالد ترامب وبعض أفراد حملته في الانتخابات الأميركية، حيث حوى كلمات لم نسمعها سوى لدى أنظمة اعتادت تزوير إرادة الناخبين والقبض على زمام السلطة بأي وسيلة.
وبدلا من أن يقوم ترامب بتقويم هذه الأنظمة وتهذيب توجهاتها اتساقا مع القيم الديمقراطية، اقتبس مفردات قاتمة من قاموسها السياسي، ورددها على الملأ في بلاده.
ونقل ترامب شبحا مخيفا من عالم آخر إلى الولايات المتحدة، قد جلبه من خلال تصرفاته، بما زاد من قناعة المتابعين للشأن السياسي بأن الرجل يمثل قطيعة مع من سبقوه، وسوف يؤدي بقاؤه على رأس السلطة إلى هز الكثير من القيم الأخلاقية في الولايات المتحدة، وهي فكرة شاعت مبكرا، وتعززت بتصوراته في أثناء الحملة الانتخابية، وما أفرزته من ظواهر سياسية.
وعندما يرى المتابعون في دول عُرفت بعدم النزاهة في الانتخابات خطابا رسميا في الولايات المتحدة يحمل الكثير من المعاني الفوضوية التي لا تناسب ديمقراطيتها، ينزعجون لأن بعض المفردات المستخدمة تشبه نماذجهم السلبية.
اشتمل خطاب ترامب في حملته على عبارات تشير إلى عمق الفوضى، مثل: تصويت الموتى، وتلاعب في الفرز، وحرق بطاقات تصويت، وتغيير في النتائج، وتهديد باستخدام العنف، وكأن من يرددها هو فريق المعارضة.
ينطوي ذهاب الرئيس الأميركي إلى استخدام هذا النوع من الرسائل على عمق الارتباك السياسي الذي يمر به، وفقدان البوصلة والسيطرة على مقاليد الحكم، فالمفترض أن هناك نظاما ثابتا وعادلا، وقوانين تحكم عملية الخروج عليها في أي وقت، وأن يشكو بهذه الطريقة فمعناه أن النظام الأميركي أصابه عطب خطير، وهذا غير دقيق، أو أن ترامب يحاول استباق إخفاقه بوضع المسؤولية على عاتق آخرين.
ويقول مراقبون، إن ما يعرف بـ”الترامبية” ليست مرادفا للشعبوية فقط، بل مرادفا لرغبة في تكريس الدكتاتورية، وهذا أحد أسرار غرامه بأنظمتها، واستخدامه لكثير من التوصيفات التي لم تعهدها الولايات المتحدة منذ عقود طويلة.
خطاب مزدوج
ارتدى ترامب لباس المعارضة وهو لا يزال في قلب السلطة، وسوغ خطاب التآمر وهو يملك الكثير من مفاتيح الحل والعقد، بما يشي بأنه يرفض مجابهة خصومه بالأدوات القانونية، ما يجعله فاقدا للمصداقية، على غرار حكام الدول الشمولية.
لم تصل الخطورة في بعض هذه الدول إلى هذا الحد، لكن الكثير من المراقبين يشعرون وكأنهم شاهدوا بأم أعينهم لقطات في هذا الفصل من المسرحية قبل ذلك، وسمعوا وقرأوا هذه الكلمات في صحف المعارضة.
وتخيلوا أن النموذج الأميركي الرائد يتعرض لتقويض فجّ على أيدي الرئيس ترامب، ربما يريح المؤيدين للأنظمة الحاكمة، على اعتبار أنهم كلهم أصبحوا في الهم شرق، بينما يحزن الحالمون بتغيير واقعهم ومن تمنوا المضي قدما، ولو بعد حين، على الطريقة الأميركية.
بين هؤلاء وهؤلاء اشتباكات وحروب سياسية معلنة وخفية، ينتصر فيها غالبا المؤيدون ويُهزم الحالمون، لأن النصر أو الهزيمة في هذا المضمار تحدده خشونة السلطة وقدرتها في القبض على مقاليدها وليست نعومة المعارضة.
قد يسمع البعض ضحكات مكتومة خرجت منها مقتطفات من الغرف المغلقة إلى وسائل الإعلام، ممن عُرفوا بتزوير إرادة الناخبين في الدول الشمولية، في عصر ما قبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، فما ردده ترامب ومناصروه كان شائعا لديها.
اشتمل خطاب ترامب في حملته على عبارات تشير إلى عمق الفوضى، مثل: تصويت الموتى، وتلاعب في الفرز، وحرق بطاقات تصويت، وتغيير في النتائج، وتهديد باستخدام العنف
اعتادت هذه الدول على تصويت الموتى، ولم يكن غريبا في معظم الانتخابات التي جرت في مصر خلال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وما قبله، وظهرت مجموعات متخصصة في ملء استمارات الاقتراع واستدعاء أسماء الموتى والتصويت نيابة عنهم، وتغافل الكثيرون عن وجود صدى حقيقي لهذه العبارة في الولايات المتحدة، وكادت تتلاشى في بلدانها الأصلية، وظهرت نماذج جديدة أشدّ حنكة.
كان مصريون يتندرون قبل عقود سابقة عندما يتعمد البعض تسريب بيانات خاصة بالتصويت في الاقتراع، ويعتقدون أن أقاربهم بُعثوا من قبورهم ووقعوا بحروف أمام أسمائهم، وتحولت المسألة إلى ظاهرة لسنوات طويلة، ووقتها لم يأت العقل البشري بأذكى من هذه الطريقة للتزوير.
صاحت المعارضة وبحّ صوتها بلا فائدة رفضا لهذا الأسلوب، وقدمت أدلة وشهادات موثقة على عدم جواز توقيع الموتى، حتى صمتت المعارضة، ولا تزال تراهن على حتمية التغيير وفوجئت بترامب وخطابه، حيث سجل هدفا غير معتاد في مرماها، وسوف تكون له توابع على رؤية النموذج الأميركي، سواء نجح ترامب أم أخفق.
جاءت شماتة الموالاة من رحم الشعور بالسبق على الولايات المتحدة التي تعتبر الديمقراطية والحريات من الصروح المهمة، ومن الشعارات التي ترفعها في وجه العالم، وتستخدمها في توجهاتها كأداة للضغط على الأنظمة الشمولية.
وجاءت أيضا من تصور البعض أن ترامب منحهم سيفا للتشكيك في شرعية مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن، فإذا تأكد فوزه ربما تصاحبه لعنة ترامب، وتناسوا أن المضامين التي عبر عنها يمكن بسهولة تأكيدها أو نفيها عبر قوانين صارمة، تمنع التلاعب بأنواعه، وتصنف الكذب على أنه جريمة، فما بالنا بتزوير إرادة الناخبين.
شكرا لحسن تعاونكم
سلطت بعض وسائل الإعلام في الدول الشمولية الضوء على متلازمة ترامب الجديدة، وصورت المشهد على أن هناك خرقا في النواميس السياسية يجب اقتناصه، وعدم تفويت الفرصة عليه كورقة قد تعيد الاعتبار إلى الأنظمة التي كلما قطعت شوطا ضئيلا في طريق الديمقراطية ظهر من يريد الانقضاض عليه.
لم يخطر على بال الكثير من المصريين أن يسمعوا ثانية عمّا جرى عندهم عام 2012، عندما استبقت جماعة الإخوان الإعلان رسميا عن نتيجة الانتخابات الرئاسية، وخاضها مرشحها الراحل محمد مرسي، وأكدت فوزه، ووضعت أجهزة الدولة أمام مأزق، وقالت إن تغيير هذه النتيجة يؤدي إلى اشتعال حرائق في البلاد.
أُعلن فوز مرسي في هذه الانتخابات، وسواء كان الفوز مستحقا أم لا، فقد كشف الإعلان المسبق عن تفكير بالغ السوء في التلاعب بمصير البلد، وتعامل المصريون مع هذا الموقف باستغراب شديد، مؤكدا أن مصلحة الجماعة فوق الجميع.
تناقلت وسائل إعلام أميركية شيئا شبيها من ذلك، حيث بدا ترامب ميالا للتفكير في إعلان فوزه، بصرف النظر عن النتيجة الرسمية، التي قد تستغرق وقتا، وأراد وضع الجميع أمام اختبار صعب وأنه الرئيس ولا أحد غيره سيجلس مكانه في البيت الأبيض، وهي كارثة جديدة.
ترامب ارتدى لباس المعارضة وهو ما زال في السلطة، وسوغ خطاب التآمر وهو يملك الكثير من مفاتيح الحل والعقد
نجحت جماعة الإخوان في وضع مرشحها على كرسي الحكم في مصر لأول مرة، وأخفقت في الحصول على ضمانات لاستمراره، حتى جرت إزاحته بعد عام، بموجب ثورة شعبية عارمة حصدت تأييد المؤسسة العسكرية.
تراجع ترامب عن هذه الخطوة وترك أثرها المعنوي السيء في نفوس الكثيرين، حيث أكدت نمطية التفكير وأحاديته وفوضويته، أنه لا فرق بين من يميلون إلى الدكتاتورية في الأنظمة الشمولية بالفطرة، ومن يميلون إليها بالخبرة.
كان الرئيس الأميركي على مدار أربعة أعوام نموذجا للغطرسة وفرض الرأي، وضرب عرض الحائط بالكثير من القيم الديمقراطية في بلاده، وبدا للكثيرين نموذجا خارج السياق العام، بكل ما قام به من ممارسات، وما تبناه من سياسات.
ويمثل سقوطه ضربة قوية للأنظمة التي تشاركه هذه الأفكار ضمنيا، ولو كانت تعلن خصامها مع إدارته في العلن، لأنه في النهاية وفّر لها الحجج الكافية للتشدق بشموليتها ومنحها من دون قصد مبررات تكريس منهجها، وضمنت أن القاموس الانتخابي السلبي الذي تستخدمه يجد رواجا في أعرق الدول الديمقراطية، ولسان حالها يقول “شكرا ترامب على حسن تعاونكم معنا”، وهو يرد قائلا “عذرا لقد أصبحت واحدا منكم”.