فاروق يوسف يكتب:

زمن الوصاية الأميركية

ما من دولة خالفت الأوامر الأميركية وانتهت نهاية حسنة. من كوبا إلى إيران مرورا بتشيلي وأفغانستان والعراق وفنزويلا وليبيا. وليست كوريا الشمالية استثناء في ذلك المجال بالرغم من أن زعيمها الشاب قد تُرك لجنونه الذي هو الآخر وصفة أميركية للخراب سبق وأن جربها صدام حسين وهوغو تشافيز وفيدل كاسترو.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي انفردت الولايات المتحدة بالعالم. هل هذا صحيح؟ إلى حد ما ولكن ليس تماما. فما الذي كان الاتحاد السوفييتي يفعله لنجدة حلفائه؟ يبقيهم أحياء ولكن محاصرين. علاقتهم بالعالم الخارجي تتم من خلاله وهو الذي لم يكن يمتلك قاعدة علاقات عالمية واسعة تستند إلى اقتصاد متطور.

غير أن التجربة أثبتت أن وجود الاتحاد السوفييتي خير من غيابه.

لم تكن الصين مؤهلة للعب الدور الذي كان يلعبه الاتحاد السوفييتي. كانت الصين دولة مختلفة؛ عقائدية متشددة في الداخل ومنفتحة بطريقة مدروسة على الاقتصاد الرأسمالي. حرصها على سوقها بحجم حرصها على عقائديتها. لذلك لم تتحول إلى قطب في السياسة الدولية. أما الاتحاد الأوروبي فإنه كان في طريقه إلى الانفراد بنفسه حين أعلنت بريطانيا عن انفصالها فصارت دوله تتعامل بطريقة فردية إلى حد كبير.

ظلت الولايات المتحدة هي القطب السياسي الوحيد الذي إن فشل في مجلس الأمن بسبب حق النقض فإن قوته العسكرية الفائضة تبيح له التدخل الفوري السريع في كل مكان.

فهي تفعل ما تشاء في الوقت الذي يلائمها ضاربة في بعض الأحيان بالقانون الدولي عرض الحائط. وهو ما أدى إلى أوضاع إنسانية غاية في السوء كما هي الأوضاع في أفغانستان والعراق.

غير أن الواقع هو الواقع وعدم الاعتراف به لا يعد إلا إنكارا أعمى.

لقد انشدّ العالم كله إلى الانتخابات الرئاسية التي شهدتها الولايات المتحدة بطريقة لا يمكن أن تحدث لو أقيمت انتخابات في أي مكان آخر من العالم. وهو ما يؤكد أن البشرية كلها تنظر إلى رئيس الولايات المتحدة كما لو أنه رئيس العالم. هناك مصائر دول عديدة رهينة بالرئيس المقبل.

شخصية الرئيس مهمة بسبب صلاحياته الواسعة غير أن السياسة التي تقف وراءه هي الأهم. فقد يكون الرئيس مولعا بالاستعراضات التي تجلب معها الأخطاء الجانبية مثلما حدث مع دونالد ترامب وقد يكون شغوفا بالمؤامرات السرية مثلما كان الحال مع باراك أوباما. غير أن ذلك الرئيس يبقى واجهة ثقيلة لسياسة المؤسسة الأميركية العميقة.

ولأن أميركا قوية فإنها لا تخشى التحولات، بل إنها لن تكون أميركا إذا لم تقع التحولات. تلك تحولات يدفع العالم ثمنها؛ يربح جزء ويخسر جزء. تفعل ذلك لأنها كبيرة وقوية وصلبة وعميقة وفي إمكانها أن تكون موجودة في كل مكان من الكرة الأرضية كما لو أنها ساحر.

القوة العسكرية هي مصدر ثقتها. ذلك صحيح. ولكنها أيضا قوة علمية لا يستهان بها. الجامعات الأميركية هي سر تلك القوة. لم ينفق الأميركان أموالهم على العقائد. لقد أنقذهم إيمانهم بحرية المعتقد من الوقوع في ذلك الفخ. لقد أنفقوا أموالهم على العلم. احتكروا الكثير من المؤسسات الأممية لخريجي جامعاتهم فكانوا في ما بعد حاضرين في كل مكان من العالم وبالأخص مناطق الأزمات التي تقف الولايات المتحدة نفسها وراءها.

تتوج الولايات المتحدة عملها في خدمة العالم من خلال خبرائها بعد أن يكون عسكريوها قد رسموا خرائط لخراب استثنائي لا يُمحى غباره.

لقد استطاع خبراء الإعلام أن يمحوا كلفة الحرب في فيتنام. لا أحد يتذكر فيتنام، حتى فيتنام نفسها التي لا تتعامل مع ماضيها بجنائزية.

في إمكان أميركا أن تخلق واقعا بديلا لواقع تشعر أنه لا ينسجم مع خططها. لقد محيت عقدة الذنوب ووضعت الأفلام والوثائق على الرف. ما ارتكبته أميركا من الجرائم خلال العقدين الأخيرين يتفوق في بشاعته على ما ارتكبته في فيتنام غير أنها استطاعت أن تخرج نظيفة.

“العالم قد تغير” ولكنه العالم الذي صنعته بنفسها. ذلك هو العالم الذي يطوي ملف جرائمها ليقف مشدود الأعصاب في انتظار الإعلان عن الرئيس المقبل الذي انتخبه شعبها كما لو أن العالم كله قد صغر وصار مجرد صندوق اقتراع.

لا تحتاج أميركا إلى أن تصدر أمرا ليقيس العالم درجة حرارته قياسا لما يجري فيها.

مشكلة العالم هي وعقدته غير أن البشرية لم تفعل شيئا من أجل أن تتخطاها فظلت سادرة في غيها من غير أن يغير ذلك من حقيقة أنها لا تزال هي القوة الأذكى في العالم.