محمد أبوالفضل يكتب:
تغيير حاسم في رؤية الغرب للإخوان
ظلت مصر فترة طويلة تحذر من احتضان بعض الدول الأوروبية لجماعة الإخوان، وتنبه على ضرورة عدم التساهل السياسي مع أنشطتها، ولا حياة لمن تنادي. البعض تقبل الكلام لزوم اللياقة الدبلوماسية، والبعض تجاهله تماما، وفئة ثالثة ناقشت الملف باستفاضة ولم تتخذ الإجراءات اللازمة للتصدي لما يحمله من تهديدات وجودية.
دقت فرنسا بقوة جرس إنذار خلال الأيام الماضية حول خطيئة تغلغل التيارات الإسلامية في مجتمعها، ودورها في ما يسمى بالانعزالية الأصولية. وبدأت النمسا تنتبه إلى الخطر الذي يلتف حول رقبتها. وهو ما كرره الرئيس عبدالفتاح السيسي مرارا، وفي مواقف ومناسبات مختلفة ولم يجد تعاونا شاملا.
دعك من قصة الرسوم المسيئة، وهي مهمة بالطبع ولها دلالاتها، وركز على النفق الذي دخلته وصورها على أن هناك حربا فرنسية مقدسة على الإسلام والمسلمين، لحرفها عن أهدافها الرئيسية، وهي عدم السماح لتركيا والإخوان بمزيد من التغلغل في المجتمعات الغربية، واجهاض عمليات تجفيف منابع الجهات التي تخدم أجندة لم تعد مفيدة لمصالح فرنسا وغيرها من الدول التي لم تتعامل بجدية مع تحذيرات اختراق جمعيات أهلية لها، وحصولها على شرعية في الحركة.
حاول المحتفون من التنظيمات المؤدلجة بفوز المرشح الديمقراطي في الانتخابات الأميركية جو بايدن، التشويش على خطوات فرنسا والنمسا الصارمة تجاه أنشطتهم المختلفة، ولفت الأنظار إلى الرمزية السياسية التي تحملها خسارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكأن بايدن فاز لتحقيق أمنيات هؤلاء فقط، وتجاهلوا الرغبة الأوروبية في استعادة الولايات المتحدة التي تسببت سياسات ترامب في ابتعادها، وأن هناك وقائع غربية جديدة كشفت الكثير من الحقائق السلبية عن التيارات الإسلامية.
وفر خطاب فرنسا وتحركات النمسا فرصة لمصر لتعزيز موقفها الحاسم في معركة الإرهاب ومحاربة المتطرفين، من خلال زيادة أطر التفاهم مع الدول الغربية، والبناء على الإجراءات التي اتخذت، لتعميمها في الدول التي تفتح أبوابها للإخوان. وهي فرصة يجب استثمارها من جانب الجهات السياسية والأمنية.
أرسلت فرنسا في معركتها مع المتطرفين إشارات قوية لعديد من الدول، مثل بريطانيا وألمانيا، بأنها لن تقبل مساومات أو مناورات أو تبريرات لقبول الليونة الشديدة مع جماعة الإخوان، ويجب التخلص من الحواضن السياسية والاجتماعية الآمنة للمتطرفين، بعد أن تمكنوا من تنفيذ عمليات إرهابية في دول عدة، وأصبحت فكرة الاحتواء غير مقنعة، بل ترتد على عديد من المجتمعات الغربية.
وصلت فحوى الرسائل التي جاءت على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وعبر خطوات قامت بها النمسا، إلى الحكومات والنخب الثقافية والسياسية والأحزاب التي تبنت مواقف لينة مع الجمعيات الأهلية التي تنخر في جسم المجتمعات الغربية، وتم حضهم على تبني رؤية ثابتة وخشنة ضد تيارات الإسلام السياسي، فلم يعد هناك مجال للتساهل والميوعة والالتفافات السابقة، فالدول تتعرض للخطر، والتهدديات وجودية على الأبواب.
بدأت بعض الدول الغربية تستوعب أهمية أن تخرج عملية مواجهة المتشددين من رحم تغيير الخطاب الموجه إلى أجنحتهم السياسية، دولا وجماعات، وحتمية الحسم مع المنظمات والمؤسسات والهيئات التي تلتحف برداء إسلامي، والمضي على طريق فرنسا التي وضعت خطة لتفكيك ارتباط أبناء الجاليات المسلمة بهؤلاء.
وتولدت قناعات لدى الحكومة أن هناك فكرا متطرفا يحملونه سوف يقود إلى هدم الحريات والحقوق والواجبات التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية مثلا، وجرى الاستفادة منها لتكون معبرا لنشر أفكار التيارات الإسلامية.
فرضت هذه التوجهات الميل نحو التعاطي بجدية مع الواجهات والجمعيات المزيفة التي تحمل الكراهية، وتعمل من خلال المساجد والمدارس التابعة لها بغرض غسل أدمغة المترددين عليها.
وثبت تورط دول مثل تركيا وقطر في تمويلها ودعمها، وخدمة أغراض جماعات متشددة، وحصلت بعض الدول الغربية على معلومات تعزز الدور الذي تقوم به أنقرة والدوحة في تغذية التطرف والإرهاب في العالم.
لك أن تتخيل أن اتحاد "أتيب" التابع لهيئة الشئون الإسلامية التركية، يملك 64 مقرا ومسجدا في عموم دولة مثل النمسا، بينها 5 مقرات كبيرة في فيينا، فضلا عن مئة ألف شخص ينضوون تحت لوائه، ويعمل هذا الاتحاد كمظلة تضم مساجد وأندية ثقافية بهدف نشر أفكار أردوغان الدينية، وإيجاد مجتمعات تستطيع خدمة مشروعه السياسي في دول أوروبية متعددة.
أرادت فرنسا والنمسا التأكيد أنهما تعرضتا لعمليات إرهابية، بعد أن تمسكتا بحماية منظومتهما القيمية، ولم ترضخ أي منهما للضغوط والابتزازات التي تعرضت لها من جهات مختلفة، وعلى الدول الأوروبية الأخرى المعروفة بنشاط الجمعيات الإسلامية على أراضيها عدم التردد في خوض هذه الحرب، والتحلي بالشجاعة واستيعاب دروس المواجهة التي لن تتوقف قبل اجتثاث جذور المتطرفين، وتجد كل دولة نفسها في معركة مكلفة تهدم قيمها.
تستطيع مصر المساهمة في هذه الحرب المصيرية بما لديها من وقائع موثقة، وتعيد الاعتبار لما جرى الحديث عنه قبل سنوات ولم تتجاوب معه الدول الأوروبية، والتي كانت مغرمة بفكرة احتواء ما يسمى بالمعتدلين، وتمعن في التفرقة بينهم وبين المتشددين، حتى أثبتت الأيام أنه لا فرق، والتنسيق يتم بينهما على قدم وساق.
ينطلق التعامل المصري مع التطورين المهمين في كل من فرنسا والنمسا، والمرجح أن يجلب معه تطورات على مستوى دول أوروبية أخرى، من تقديم المزيد من المعلومات الدقيقة، وعدم تجاهل التفاصيل التي يغرم بها الغرب.
بمعنى توفير أدلة تثبت حقيقة جماعة الإخوان وروابطها السياسية والأمنية في المنطقة، والأشخاص الذين تعتمد عليهم في مصر أو غيرها، فهذه الخريطة كفيلة بقطع أية شكوك حول وجود مصلحة خاصة أو رغبة في الانتقام.
وفرت التحركات الغربية الأخيرة فرصة لتعزيز رؤية مصر التي بح صوتها لتوصيلها والعمل بها، حيث توجهت باريس بخطابها إلى الفضاء الغربي مباشرة، وحثته على عدم التهاون مع رعاة الإرهاب، والتوقف عن الاستهانة بالتصورات الرائجة. وأصبحت الأجواء مناسبة تماما لتخرج أجهزة الأمن المصرية المخزون الكبير من المعلومات التي تثبت خطورة التساهل مع التسلل الناعم للجمعيات التابعة للإخوان، والوصول إلى تغيير حاسم معهم.