أحمد عمر بن فريد يكتب:

الأحقاد لا تبني وطناً.. رواندا مثالا (1- 2)

لا يُمكن أن يكون شعب الجنوب العربي اقلَ ثقافةً ووعياً بمصالحه من الشعب الرواندي، حتى نقول أنّه لا يملك المقدرة- كما كان للروانديين- على تجاوز إرث صراعاته الداخلية والتي- وإن كانت مؤلمةً- لا يمكن مقارنتها بالتجربة المريرة التي خاضها الشعب الرواندي، والتي تُعتبرُ واحدة من أكثر التجارب البشرية دموية على صعيد الاقتتال الداخلي، حيث قُتل- خلال مئة يوم فقط- في عام 1994 نحو 800 ألف شخص على يد مُتطرفين من قبائل الهوتو، الذين استهدفوا أفراد من قبيلة التوتسي، بالإضافة الى خصومهم السياسيين الذين ينتمون الى أصولٍ عرقيةٍ أخرى.
تمكنت رواندا بعد ذلك بمعجزةٍ بشريةٍ حقيقيةٍ من تجاوز مأساتها، وتحوّلت اليوم إلى أكثر دولة في افريقيا استقراراً ونماءً اقتصادياً، وأما كيف فعلت ذلك فسيكون حديثي في الجزء الثاني من هذا المقال، لكني هنا اودّ التركيز على عاملٍ مشتركٍ ما بين ما تسبب في كارثة رواندا، وما يُراد له أن يحدث اليوم في الجنوب فيما بيننا! ومن المهم لنا جميعاً أنّ نتمعن في المقارنة وعوامل التجربة لأنها في جوهرها "واحدةٌ " تقريباً!
لعبَ المُستعمر البلجيكي دور الشيطان في خلق الفرقة ما بين الهوتو و التوتسي منذ القدم، تطبيقاً للشعار الاستعماري الخبيث "فرّق تسد"، إذ تمكّن المستعمر من إذكاء روح العنصرية ما بين القبيلتين باستخدام مقاييس للطول والوزن، وحجم تجويف الجمجمة وطول الأنف، والتي بها زرع "اعتقاداً" بأنَّ للتوتسي مواصفات أكثر نُبلا وارستقراطية من الهوتو، وهي مزاعم لا أساس لها بالطبع، ولكنه رسّخها لغرض التفرقة.
في الجنوب يستخدم اليوم "المُستعمر المُتربص" سياسةَ فرق تسد أيضا، والتي من علاماتها ما نشاهده ونعايشه، وللأسف الشديد ما نتفاعل معه ونُصدّقه من "مصطلحاتٍ خبيثةٍ " يُراد لها أن تكون علاماتٍ فارقةً ما بين أبناء الوطن الجنوبي الواحد!
فعلى سبيل المثال نسمع من عناصر الاستعمار المتربص وأدواته المحلية في وسائل التواصل الاجتماعي وقنواتهم الفضائية مصطلحات من قبيل: أصحاب القرية، مشروع القرية المناطقي، أهل الجبال، وغيرها من المسميات التي تُعتبر بذور خبيثة زُرعت في تربة صراعات الماضي فأنبتت- مع الأسف- اشجاراً وثماراً مسمومةً باتت اليوم هي المُهيمنة على الغذاء السياسي الذي نحتكم له جميعاً! قال لوجزيف غوبلز، وزير اعلام هتلر: "اعطني اعلاماً بلا ضمير، اعطيك شعباً بلا وعي".
في هذه الأجواء المسمومة والخبيثة التي أنتجها المحتل وأعوانه، باتَ ترويجُ هذه البضاعة على عامة الشعب في الجنوب عمليةً يسيرةً جداً، وباتت هذه البضاعة رائجةً في سوق النخاسة السياسي، تُباع وتُشتري بسهولةٍ تامةٍ مع ما يُمكن ان تحدثه من فرقة وتشرذم واقتتال، وتحوّل دور القيادة التي يُعوّل عليها في السير بهذا الشعب المكلوم الى رحاب الحرية والاستقلال، إلى دورٍ "رديء" مهمته توجيه هذا الشعب - وفقاً لهذه المفاهيم البليدة- إلى طرقٍ مٌظلمةٍ يملؤها الحقد والكراهية والضغينة.
الأحقاد أيها السادة لا تبني وطناً، ولا تنتج أمانًا، ولا تحقق رخاءً أو تنميةً، ولا تقود إلى مستقبلٍ مشرقٍ، لأنّها صفةٌ ذميمةٌ لا يُمكن أنّ تُنتج الا كل ما هو كارثي ومميت. لا يُمكن للأحقاد إلا أنَ تُنتج الصراعات والدماء والدمار والجهل والفقر، ولا يُمكن أبداً لـ "قائدٍ حقيقيٍ" أن يقود شعباً منطلقاً من أدواتٍ كهذه. إنَّ من يستخدم هذه الأدوات في تعامله مع مستقبل الجنوب لا يُمكن أنّ يحمل صفة "قائد"، لأنّه في الحقيقة أقرب إلى صفة "البلطجي"، الذي لا يجب أنّ يُعوّل عليه أو أن يكون مجرد "أداة" تُنفّذ سياسة المحتل بعلمه أو بدون علمه. وفي كلا الحالتين، لا يجب التعويل عليه أو الاستماع إلى ما يقول.