د. ابراهيم ابراش يكتب:
القضية الفلسطينية في زمن التطبيع الرسمي العربي
التطبيع العربي مع إسرائيل ليس بالأمر المفاجئ أو خارج سياق التحولات التي يشهدها العالم العربي منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر 1979 ثم فوضى ما يسمى الربيع العربي، كما أنه لا يخرج عن سياق "عملية السلام" التي أسست لها اتفاقية أوسلو ولا عن سياق الفشل الرسمي الفلسطيني في شقيه الوطني والإسلاموي، ولذا لا داع لأن يغضب الشعب الفلسطيني أو تتوه بوصلته النضالية، لأن ما جرى كشف مستور حقائق تحايل العقل السياسي المشبع بالأيديولوجيا والتمنيات مع المال السياسي المُكمِم للأفواه والمُعمي للأبصار الاعتراف بها. كما أن التطبيع يجب أن لا يكون مبرراً للطبقة السياسية لأن تصرخ وتكرر مقولة "يا وحدنا" لتبرر أي انزلاق قادم نحو مزيد من اللعب على الخطوط الحمراء وحصر السياسة في نطاق "الممكن الوطني" كما تعبر عنه سياساتها، كما جرى مع "يا وحدنا" أثناء حرب لبنان 1982 وخروج قوات منظمة التحرير منها وكيف أدت لتدشين فكر التسوية والبحث عن الحل السلمي.
التطبيع ليس مفاجئا وليس بالخطورة التي يصورها البعض إلا لمن يريد أن يجعل منه ملهاة جديدة للهروب من الواقع والتغطية على فشل الطبقة السياسية والنظام السياسي الفلسطيني. لم تكن جيوش الدول المطبعة في حالة حرب مع إسرائيل قبل التطبيع ولم تكن سياساتها التطبيعية طوال سنوات خفية عن أعين أولي أمر الفلسطينيين، كما أن المقاطعة وكل عواطف الجماهير العربية المؤيدة للشعب الفلسطيني لم تمنع إسرائيل من أن تمارس كل اشكال العدوان والحرب والحصار والاستيطان. هذا لا يعني التهوين من التطبيع أو تجاهل أهمية المساندة العربية الشعبية للفلسطينيين ولكن وضع التطبيع في سياقه الصحيح.
الموجة الأخيرة من التطبيع نتاج سيرورة من الانهيارات والتحولات العربية والفلسطينية أهمها:
- منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979 انتهت حقبة الصراع الرسمي العربي الإسرائيلي بمضمونه العسكري مع استمرار الشعوب العربية في غالبيتها مؤيدة للشعب الفلسطيني.
- الموقف الشعبي الرافض للتطبيع بالإضافة إلى حالة الاشتباك بين الفلسطينيين والإسرائيليين كان وراء محاصرة نهج التطبيع في أضيق الحدود وحتى التي طبعت استمر تطبيعها بارداً كما هو الأمر مع مصر والأردن.
- مؤتمر مدريد 1991 للسلام حيث أرتضى العرب بمبدأ تعدد مسارات التفاوض وهو ما أدى لتوقيع اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين 1993 واعتراف منظمة التحرير بإسرائيل وحقها في الوجود، ثم توقيع اتفاقية سلام بين إسرائيل والأردن 1994 (وادي عربه).
- فوضى الربيع العربي عام 2011. حيث تحول ما يسمى الربيع العربي إلى مخطط متكامل يديره الغرب بأدوات محلية وعربية لتفتيت وتدمير الأمة العربية وإضعافها وتقويض الحركات والفكر القومي والتحرري والتقدمي العربي الذي كان حاضنة للقضية الفلسطينية.
- التطرف الديني والنزعات الطائفية والعِرقية أضعفت الأنظمة العربية سواء التي تعرضت لفوضى الربيع العربي أو لم تتعرض وأصبحت جميعاً ضعيفة وهشة أمنياً وبحاجة إلى حماية خارجية من غضب شعوبها أو من خطر جيرانها، ولم تجد الأنظمة إلا واشنطن وإسرائيل لتحميها من هذه المخاطر ولينطبق عليهم المثل الشعبي "حاميها حراميها".
- التطرف والإرهاب الإسلاموي غطى على الإرهاب الصهيوني، كما أن انتشار فكر الإسلام السياسي غيَّر من أولويات التفكير والاهتمام عند الشعوب وخصوصاً الشباب، والقضية الفلسطينية ليست من أساسيات وأوليات جماعات الإسلام السياسي.
- إن جيلاً جديدا في المنطقة من الشعب ومن الطبقة الحاكمة لم يعاصر مرحلة المد القومي والتحرري والحرب مع إسرائيل وبالتالي لا تختزن ذاكرته عن القضية الفلسطينية إلا ما تنقله وسائل الإعلام من صراعات ومناكفات داخلية واتهامات متبادلة بين الأطراف الفلسطينية.
- اختلال العلاقة الفلسطينية مع الشعوب العربية حيث خسر الفلسطينيون كثيراً من التأييد والتعاطف الشعبي وهو أمر تتحمل مسؤوليته الدبلوماسية الرسمية الفلسطينية وكل الأحزاب السياسية التي انشغلت بالصراع على السلطة والمناكفات السياسية الداخلية وتجاهلت العمق العربي والإسلامي.
- وجود رئيس أميركي (ترامب) أكثر صهيونية من الصهاينة أنفسهم ويتصرف وكأنه ملك ملوك إسرائيل بحيث مارس كل الضغوط ووضع كل الإمكانيات الأميركية لدفع دول عربية للتطبيع مع إسرائيل وآخرها المملكة المغربية، مساوماً هذه الدول على قضايا استراتيجية تعتبرها الدول المطَبعة قضايا وطنية استراتيجية تمس أمنها القومي.
- الانقسامات والصراعات الفلسطينية الداخلية ووقف مقاومة إسرائيل وتوقيع اتفاقات هدنة معها كما هو الحال في غزة أو التنسيق الأمني معها كما هو الحال في الضفة أثر سلباً على موقف الشعوب العربية تجاه القضية الفلسطينية ومنح الأنظمة مبرراً للتطبيع دون خوف لا من الفلسطينيين ولا من شعوبهم.
كل ما سبق لا يبرر التطبيع الجديد بهذه الصورة الفجة والمسيئة للمطبعين قبل أن تكون مسيئة للفلسطينيين.
خطورة التطبيع العربي الجديد ليس فقط الاعتراف بالكيان الصهيوني الاستعماري وإقامة علاقات دبلوماسية معه، بل في تبني بعض المطبعين للرواية الصهيونية التي تزعم بأن إسرائيل كانت دوما تسعى للسلام وأن المقاطعة العربية والمقاومة الفلسطينية هما العائق أمام تحقيق سلام يعم المنطقة والعالم!
وللأسف تمكن الصهاينة من زرع هذا الوهم في عقول جيل من الشباب العرب الذين لم يعاصروا تاريخ الصراع في المنطقة ولا يعرفون أنه في كل الحروب العربية-الإسرائيلية كان العرب يدافعون عن حقوقهم وأراضيهم أو يسعون لاستعادتها وإسرائيل كانت دوما معتدية: حرب 1948، العدوان الثلاثي 1956، عدوان حزيران 1967، حرب أكتوبر لاستعادة الأراضي المحتلة 1973، العدوان على لبنان 1982، وفوق كل ذلك كونها دولة احتلال باعتراف الأمم المتحدة وكل دول العالم وترفض الانصياع لقرارات الأمم المتحدة. كما أن الشعب الفلسطيني مد يده للسلام منذ مؤتمر مدريد 1991 ثم في أوسلو 1993 ومنذ ذاك التاريخ وهو يفاوض إسرائيل حتى تقبل تطبيق قرارات الشرعية الدولية، والشرعية الدولية عنوان للسلام.
وفي سياق سياسة التضليل وزرع الفتنة نلاحظ أن كل ما يتم تناقله من أخبار عن علاقات سرية بين إسرائيل ودول عربية يأتي من مصادر إسرائيلية وأغلبها مصادر رسمية، وآخرها ما تم ترويجه عبر فضائية رسمية إسرائيلية من مزاعم عن دور الملك الحسن الثاني ملك المغرب في هزيمة يونيو 1967 أو العلاقات السرية مع جهاز الموساد الإسرائيلي ودور هذا الأخير في اغتيال المناضل المهدي بن بركة. وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذه المزاعم فإن ترويجها في هذا الوقت وبعد أن تم تطبيع العلاقة بين البلدين إنما يهدف لزرع الشقاق بين المغرب والشعب الفلسطيني واستدراج ردود فعل شعبية عربية وفلسطينية غاضبة ضد المغرب. وهنا يجب الحذر من الانزلاق من التطبيع الرسمي إلى حالة عداء بين الشعب الفلسطيني واشقائه العرب وهو ما تريده إسرائيل، فهذه الأخيرة تريد أن تصهين العرب من خلال دفعهم لقطع كل صلة لهم بالفلسطينيين وشيطنتهم وتبني الرواية الصهيونية.
يمكن السكوت عن التطبيع الرسمي بغض النظر عن المبررات التي تطرحها الأنظمة المطبعة، ولكن ما لا يمكن قبوله أو السكوت عنه أن يتبنى البعض الرواية الصهيونية وتسمح الصحف والفضائيات العربية لأقلام وأصوات حاقدة إسرائيلية ومحلية أحياناً بتشويه الشعب الفلسطيني والتشكيك بالروابط الإنسانية والأخلاقية والقومية والدينية التي تربط الشعبين، أو يتم التضييق على الجاليات الفلسطينية في الدول العربية وهي جاليات أثبتت أن ولاءها للدول المضيفة لها لا يقل عن ولائها لفلسطين، وفي نفس الوقت تمنع مناصري الحق الفلسطيني من التعبير عن مواقفهم وآراءهم ولو بمقالة أو بمشاركة تلفزيونية أو من خلال مسيرة سلمية.
التطبيع سيؤدي مؤقتاً إلى إنهاء الصراع الرسمي مع إسرائيل وقد يضعف حالة العداء معها، إلا أن ذلك لا يعني أن إسرائيل لم تعد تشكل خطراً على العرب والمسلمين أو أن جيرة إسرائيل أفضل من جيرة الدول العربية والإسلامية المجاورة.
كما أن التطبيع وإن أثر على أيديولوجيا الصراع فإنه لن يغير من حقائق وواقع الصراع كصراع فلسطيني إسرائيلي وأن إسرائيل دولة استعمارية عنصرية، ولكن التطبيع الجديد سيحرج القيادة الفلسطينية، ففي ظل تمسكها بنهج التسوية السياسية ومطالبتها بعقد مؤتمر دولي للسلام فهي بحاجة لكل الأنظمة العربية سواء التي لها علاقة مع إسرائيل أو ليس لها علاقة، وسياسة قطع العلاقات مع كل دولة مطبعة أو سحب السفير أو محاولة التحريض عليها لن تجدي نفعاً، والمهم في هذه المرحلة ألا تعادي الأنظمة العربية المُطبِعة الشعب الفلسطيني وتتخلى عنه أو تشيطنه لإرضاء إسرائيل.
على الشعب الفلسطيني أن يتعامل مع عالم عربي وإسلامي رسمي وشعبي مختلف عما كان عليه في الستينيات والسبعينيات، الأمر الذي يتطلب مزيداً من الاعتماد على الذات وفي نفس الوقت العمل على استعادة البعد الشعبي للقضية الفلسطيني لأن الجماهير الشعبية في كل بلد هي الجهة الأكثر قدرة على مواجهة التطبيع أو الحد من اخطاره، والخطوة الأهم المطلوبة فلسطينياً تغيير الصورة السلبية عنهم التي طفت أخيرا وصورتهم كشعب تخلى عن مقاومة الاحتلال وتتصارع نخبه السياسية على السلطة والثروة ويستجدي المساعدات الخارجية، وهي صورة وإن كان لها أساس في الواقع ولا شك إلا أن منابر إعلامية معادية للشعب الفلسطيني تضخمها وتروجها لتبرير التطبيع مع إسرائيل. الوحدة الوطنية وتصويب وضع النظام السياسي وتفعيل المقاومة الشعبية الرد الأمثل على مخاطر التطبيع.