محمد أبوالفضل يكتب:
خريف مصري - أميركي أبعد من حقوق الإنسان
يعتقد كثيرون أن أزمة مصر مع الإدارة الأميركية الجديدة تنحصر في ملف الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان فقط، وإذا تمكنت القاهرة من تصحيح أوضاعها في هذه الزاوية تضمن علاقة سلسة مع واشنطن، غير أن الواقع يشير إلى وجود ملفات أكثر حيوية، تمثل إزعاجا لمصر، وتتطلب إعادة نظر في بعض الثوابت التاريخية.
لا أعلم هل كان الرئيس دونالد ترامب يقصد تعكير علاقات بلاده مع مصر قبل مغادرته البيت الأبيض أما لا، عندما قال في معرض تعليقه على مشروع القرار الذي صادق عليه الكونغرس، الثلاثاء، بشأن حزمة مساعدات خارجية، إن الأعضاء لم يقرأوا مضمون المشروع الذي يتضمن 1.3 مليار دولار لمصر، “حيث سيخرج الجيش المصري لشراء معدات عسكرية روسية بشكل شبه حصري”.
سواء جاءت الإجابة بنعم أم لا، ففي الحالتين قذف ترامب بحجر في حقل مليء بالأشواك يتعلق بمسألة المعونة الأميركية التي تقدم لمصر منذ حوالي أربعة عقود، تشجيعا لها عقب مبادرتها بالسلام مع إسرائيل وملحقاته العسكرية والسياسية.
بعد تزايد عدد الدول العربية التي وقعت اتفاقيات سلام وقبلت بالتطبيع مع إسرائيل، غير مستبعد حدوث مراجعة في ملف المعونة وملحقاتها الاقتصادية والعسكرية، فالحاجة التي دعت إليها تتراجع، والقيمة الرمزية التي رمت لها واشنطن تستطيع تعويضها من دول عربية أخرى، فلماذا تدفع ثمن سلعة ليس لها تأثير كبير الآن؟
المعونة مبلغ ثابت تتلقاه مصر سنويا من الولايات المتحدة، بعد توقيعها اتفاقية سلام مع إسرائيل عام 1978، وأعلن وقتها الرئيس الأميركي جيمي كارتر تقديم مساعدات اقتصادية وأخرى عسكرية، لكل من مصر وإسرائيل، ثم تحولت إلى منح لا ترد بواقع 3 مليارات دولار للأولى، و2.1 مليار دولار للثانية سنويا، منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية.
هذه المعونة ليست فقط عربون صداقة بين مصر وإسرائيل وتثبيت أركان السلام بينهما، بل تحافظ بموجبها واشنطن على مصالحها الإستراتيجية، وفي ظل تحولات كبيرة جعلت إسرائيل إلى حد بعيد رقما أشبه بالطبيعي، وتغيرات دفعت الولايات المتحدة إلى مراجعة حساباتها في المنطقة، من المتوقع أن تكون لكلام ترامب حول المعونة دلالات أخرى في المستقبل القريب.
تتحسب مصر كثيرا من غدر إدارة جو بايدن، وهيأت نفسها لمعركة في الملف الحقوقي، وأقدمت على إجراءات تحسين ملحوظة في بعض معالمه، وتعلم أن المعركة يمكن أن تمتد إلى مجالات متباينة لا ترغب فيها، لكن يمكن أن تفرض عليها فرضا.
سبق التلويح بقطع المعونة عند بعض المنعطفات التي مرت بها العلاقات بين واشنطن والقاهرة في عهد إدارات مختلفة، وجرى اقتطاع أجزاء منها أو تجميدها، ثم عادت المياه للمرور في قنواتها السياسية بصورة طبيعية.
نكأ ترامب أحد الجروح في ملف المعونة الأميركية عندما بدا ساخرا من أعضاء الكونغرس الذين وافقوا عليها، في حين أن مصر تشتري بها سلاحا من روسيا، وقد خان ترامب التوفيق في هذه الجزئية لأكثر من سبب، حيث تجاهل أن القيمة المادية للمساعدات العسكرية لا يتم تسليمها لمصر عدا ونقدا، وفي غالبيتها تستخدم في تمويل شراء أسلحة وقطع غيار من الولايات المتحدة نفسها.
أراد الرجل تسجيل هدف في مرمى الكونغرس قبل رحيله، وأن يفجر لغما في وجه الإدارة الأميركية الجديدة، يمكن أن يربكها، وبالطبع لن يغيب عنها ذلك، لأن الرئيس السابق باراك أوباما عزف على وتر تجميد جزء من المعونة لمصر، ولم يصل إلى مستوى ربطها بشراء أسلحة من روسيا التي وقعت معها مصر صفقات أسلحة.
مصر تتحسب كثيرا من غدر إدارة جو بايدن، وهيأت نفسها لمعركة في الملف الحقوقي، وأقدمت على إجراءات تحسين ملحوظة في بعض معالمه، وتعلم أن المعركة يمكن أن تمتد إلى مجالات متباينة لا ترغب فيها، لكن يمكن أن تفرض عليها فرضا
ما لم يستطع ترامب تنفيذه بشأن التمادي في شراء أسلحة متطورة حفاظا على صداقته مع الرئيس عبدالفتاح السيسي، يريد أن يتورط فيه بايدن، فإشارته المغلوطة حيال ذهاب المعونة الأميركية لشراء أسلحة روسية بشكل شبه حصري، تعني وضع الكرة في ملعب الإدارة الجديدة.
اعترض وزير الخارجية مايك بومبيو قبل أشهر على قيام مصر بشراء طائرات سوخوي 35 من موسكو، وجرى التلويح بسلاح العقوبات، لكن لم يتم اتخاذ خطوات عملية ضد القاهرة، وقيل إن عددا من هذه الطائرات وصل إلى مصر، وغض ترامب الطرف عنه، بينما اندفع وراء التنديد بإقدام تركيا على شراء صواريخ إس – 400 الروسية، ومهد الطريق لفرض عقوبات على أنقرة.
يعد شراء أسلحة متقدمة من موسكو عملية في غاية الحساسية لدى الولايات المتحدة، وتتعامل معها على أنها ضد المصالح الإستراتيجية، وخاضت في هذا الفضاء معارك دبلوماسية، بينما لا تتوقف كثيرا عند شراء مصر أسلحة متقدمة من دول غربية، الأمر الذي فعلته القاهرة مع ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ولن تنتهي حلقة أزمة شراء أسلحة متطورة من موسكو عند إشارة ترامب، وقد تتوالى الحلقات في عهد بايدن.
منح ترامب القاهرة فرصة لالتقاط أنفاسها، ومدها على طريقته المتغطرسة بأحد خيوط المعارك السياسية الساخنة التي ستكون مضطرة إلى خوضها مع إدارة بايدن والكونغرس معا، في إشارة تعني أنه كان كريما مع “دكتاتوره المفضل”.
وصلت مصر إلى مستوى من الاستقرار يمكنها من مجابهة التحدي الخاص بقطع أو تخفيض المعونة الأميركية، وفي التقديرات البعيدة هذا أمر غير مستبعد، وهو ما ألمحت إليه مصر في أوج عنفوان إدارة أوباما وكانت للتو تخلصت من حكم الإخوان، ما أغضب واشنطن وقتها.
كما أن سلاح المعونة فقد جزءا من بريقه في ضوء تنوع مصادر السلاح، من الشرق والغرب، وعودة الجزء الأكبر منها لدافع الضرائب الأميركي على شكل شراء معدات وقطع غيار، وعدم رهن القاهرة لمصيرها بإرادة أي من القوى الخارجية، ما جعلها تسرع في تكوين علاقات متوازية مع قوى متعددة، وتعلم أن تأثير واشنطن في التفاعلات الدولية يتقلص تدريجيا ولم تعد القوة الوحيدة على المسرح العالمي.
علاوة على أن تفكيك المعونة بسبب تراجع ورقة التطبيع في يد مصر، يجعلها تتحلل من بعض الالتزامات في الحفاظ على المصالح الأميركية، ويفرض إعادة النظر في الدوافع التي أدت إلى تقديمها كحافز لمصر وإسرائيل، لذلك فالعبث بورقة المعونة له ارتدادات تؤثر على العلاقة بينهما، والمعالم العسكرية التي رسمتها اتفاقية السلام.
تلوح في الأفق معالم شد سوف يسود العلاقة بين مصر والإدارة الأميركية الجديدة، تتوقف حدتها على مستوى الحرص المتبادل على مصالح كل طرف، والحفاظ على منظومة متينة تحول دون غلبة سوء الفهم على الفهم.