الجمعي قاسمي يكتب:

تونس: تذبذب المواقف يُحيل مبادرة الحوار إلى الإنعاش

تراجع الحديث في تونس حول مبادرة الحوار الوطني التي أطلقها الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في البلاد) لإيجاد مخرج للأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعد سجالات سياسية ساخنة سيطرت على مجمل المشهد السياسي والحزبي في البلاد خلال الأيام القليلة الماضية.

وفسح هذا التراجع المجال أمام تسلل البرود إلى تلك السجالات التي تحولت للاهتمام بقضايا آنية أخرى فرضت إيقاعها بقوة، منها جدل التحوير الوزاري المُرتقب، وتطورات جائحة كورونا، الأمر الذي أدخل تلك المبادرة في دائرة الإنعاش الذي قرّبها كثيرا من الموت السريري.

وساهم تذبذب مواقف الأحزاب والمنظمات الوطنية ومكونات المجتمع المدني في تعاطيها مع هذه المبادرة، الذي أملته حسابات ضيقة، وأخرى محمولة على أجندات حزبية يصعب معها الجزم بنهاياتها أو مخرجاتها، في تزايد فتور الهمم وانطفاء المعنويات التي رافقت المبادرة عند الإعلان عنها.

لكن هذا التذبذب في المواقف، مع الإضافات التي اقتضتها طبيعة المرحلة الراهنة، والأولويات التي تم تعميمها على ضوء المقاربة السياسية الجديدة التي فرضها جدل التحوير الوزاري المُرتقب، ليس وحده الذي تسبب في تراجع الاهتمام بهذه المبادرة، وإنما هناك عوامل أخرى دفعت نحو انهيار مُتدحرج لأوراق التعويل والرهان عليها في قادم الأيام.

ويبرز غموض موقف الرئيس قيس سعيّد وتبدله بين الحين والآخر، كواحد من أهم تلك العوامل التي جعلت ناتج المشاورات والاتصالات لتجسيد هذه المبادرة على أرض الواقع لم يخرج حتى اللحظة من مربع الاشتباك السياسي المُتحرك، وسط مزيج من الانتظار الذي يسبق استنفاد أوراق الضغط المختلفة لإنهاء أو سحب هذه المبادرة من التداول السياسي.

وكان واضحا منذ البداية أن الرئيس سعيّد يسعى من وراء ذلك إلى إحداث شرخ في العلاقة بين القوى والمكونات الداعمة لمبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، وذلك من خلال تعمده الدفع بعنوان “تصحيح مسار الثورة” كبديل عن “الحوار الوطني” الذي اختاره اتحاد الشغل لمبادرته.

وشكل الدفع بهذا العنوان ما يُشبه “القنبلة السياسية” التي جاءت في بيان وزعته الرئاسة التونسية، صححت فيه الأنباء التي ترددت قبل ذلك حول “قبول” الرئيس بمبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل المُتعلقة بتنظيم “حوار وطني لإيجاد حلول سياسية واقتصادية واجتماعية للوضع الراهن في البلاد”.

وبدا هذا التصحيح بمثابة “نسف” لمبادرة اتحاد الشغل، حيث أشارت الرئاسة التونسية في بيانها إلى أن الرئيس وافق خلال اجتماعه مع نورالدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، على إجراء حوار وطني بهدف “تصحيح مسار الثورة التي تم الانحراف بها عن مسارها الحقيقي الذي حدده الشعب منذ عشر سنوات ألا وهو الشغل والحرية والكرامة الوطنية”.

وأضافت أن الرئيس سعيّد شدد خلال هذا الاجتماع على “وجوب تشريك مُمثلين عن الشباب من كل جهات الجمهورية في هذا الحوار وفق معايير يتم تحديدها لاحقا”، كما “اتفق” مع الطبوبي على “عقد جلسة عمل في غضون الأيام القليلة القادمة لتناول تفاصيل هذا الحوار”.

ولم يتضمن بيان الرئاسة التونسية أي إشارة من بعيد أو قريب إلى دور الأحزاب والمنظمات الوطنية في هذا الحوار، الأمر الذي دفع العديد من المراقبين إلى وصف هذا التطور بـ”المُنعطف الإستراتيجي” الذي يريد سعيّد من خلاله نسف مسار المرحلة الانتقالية، والتوجه نحو إعادة صياغة عناصر العملية السياسية في البلاد بطريقة مُغايرة.

وتردد صدى تلك “القنبلة السياسية” بقوة في الساحة السياسية، عكسته ردود الفعل التي تباينت في توصيف أهدافها، وفي تحديد أبعادها ودلالاتها، رغم أنها بدت في معظمها غير مطمئنة لمسار الحوار في هذه الفترة التي تشهد مُتغيرات سياسية مُتعددة.

وبدا هذا التباين واضحا من خلال الخيبة التي ارتسمت لدى البعض من الذين يعتقدون أن الحوار الشامل الذي تُشارك فيه الأحزاب والمنظمات الوطنية هو طريق الخلاص، وارتياح لاح هناك لدى الذين يعتبرون أن الحوار المطروح بشكله الراهن من شأنه تعويم الأزمة، وتكريس استمرار سطوة القوى التقليدية على المشهد السياسي.

ونحسب أن يكون الرئيس سعيّد يُحاول من وراء هذا الغموض إفراغ الحوار من محتواه عبر تشبيك الأطراف المشاركة فيه، ما يجعل مشاركتها غير فعالة سواء من حيث عدد المشاركين أو من حيث قوة الاقتراح التي ستكون لها، وبالتالي تحويل هذا الحوار إلى ورقة أخرى تضاف إلى ملف الأزمة الراهنة.

بل إن الدوائر المقربة من الرئيس تدفع بمقاربة مفادها أن هذه “القنبلة السياسية” تُعد رفضا مُبطنا لمبادرة اتحاد الشغل، وهي تعكس انتصارا لرؤية سعيّد، وعزما واضحا على الذهاب حتى النهاية في إحداث تغييرات جوهرية في قواعد المعادلة السياسية في البلاد.

وتقوم رؤية سعيّد التي يعمل على بلورة أركانها بعيدا عن الأضواء، على ضرورة تشكيل خارطة سياسية جديدة يلعب فيها “شباب الثورة” الدور الأبرز في صياغة التوجهات الكبرى في البلاد على قاعدة الأهداف الكبرى التي نادت بها “الثورة” في تونس في العام 2011، التي يرى أن الأحزاب والمكونات السياسية الحالية التفّت عليها وأجهضتها.

وقد عبّر بوضوح عن هذه الرؤية في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر الماضي، عندما أكد في كلمة ألقاها أمام عدد من أهالي بلدة “منزل بوزيان” من ولاية سيدي بوزيد بوسط البلاد، أنه تم الانحراف بـ”الثورة” في بلاده، و”السطو على مطالب الشعب التي استشهد من أجلها العديد من التونسيين”.

وتنطوي هذه المواقف التي تتغير وفقا لحسابات مُتعددة، على دلالات لا تخلو من مناورات سياسية خطيرة مُرتبطة بأوراق الرهان على إنضاج معادلات جديدة تسمح بطرح خيارات أخرى على الطاولة، في سياق الاندفاع نحو إعادة صياغة موازين القوى على قاعدة التفريق بين “الشرعية” و”المشروعية” الذي ينادي به الرئيس.

وقد يكون التلويح المُبطن بضرورة ضم المؤسسة العسكرية إلى الأجسام المعنية بهذا الحوار جزءا من أدوات الضغط باتجاه الوصول إلى تلك المعادلات الجديدة للصراع، الأمر الذي أثار الكثير من المخاوف من الانعكاسات المحتملة لإقحام الجيش في العملية السياسية.

ولا تتوقف تلك المخاوف عند ارتدادات مثل هذا المستجد على مجمل المشهد السياسي، لجهة تحويل وجهة الحوار نحو مربعات أخرى مُنفصلة عن ظروف الأزمة في البلاد وتعقيداتها، بقدر ما هي مُرتبطة بسياق الترتيبات التي ستنتهي إليها الأوضاع على المدى الإستراتيجي، ذلك أن التلويح بإقحام الجيش قد يكون مقدمة تمهيدية قد يلجأ إليها قيس سعيّد حين تنضج اللحظة.