الجمعي قاسمي يكتب:

قمم الرياض العربية – الصينية، حدث مفصلي تصنعه السعودية

تفتح القمة العربية – الصينية الأولى الباب واسعا أمام مرحلة جديدة في مسار الشراكة الإستراتيجية بين الدول العربية والصين بخصائص وسمات واضحة لا تتوقف عند حدود التنمية المشتركة والتكامل، بقدر ما تنسحب على مجمل العلاقات الدولية بإرهاصاتها ومسارات توازناتها.

ويُنظر إلى هذه القمة الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات العربية – الصينية على أنها واحدة من المحطات التي من شأنها تحديد ملامح المشهد على الصعيدين الإقليمي والدولي الذي بدأ يتشكل على وقع جملة من التحديات والإكراهات التي تعددت بتعدد الاتجاهات التي تتحكم فيها.

ويرى مراقبون أن هذه القمة ستُشكل قاعدة لمتغيرات قادمة لجهة إعادة صياغة التوازنات الجيوسياسية، للاستجابة لمُجمل التحديات المطروحة، وخاصة منها الحرب الروسية في أوكرانيا، وما أفرزته تداعياتها من تطورات مفصلية في خارطة التحالفات الإقليمية والدولية.

وأضفى توقيت هذه القمة التي تبدأ أعمالها في الثامن من الشهر الجاري بالعاصمة السعودية الرياض، بحضور الرئيس الصيني شي جين بينغ وعدد من القادة العرب، أبعادا إستراتيجية نوعية في علاقة بعوامل الحسابات والمعادلات المحيطة بها، الأمر الذي جعلها تتحول إلى حدث مفصلي جديد تصنعه السعودية.

واختارت السعودية التي تراكمت لدى قيادتها عوامل الإدراك بالمتغيرات التي تعصف بالمنطقة استضافة هذه القمة بعد عقد قمتين فارقتين في تاريخ علاقات المنطقة الخليجية مع الصين، الأولى بين الرئيس الصيني شي جين بينغ، والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد محمد بن سلمان.

وخُصصت هذه القمة لبحث سبل تعزيز العلاقات بين البلدين التي شهدت خلال السنوات القليلة الماضية تطورا لافتا عكسته الزيارات المتبادلة لكبار المسؤولين في البلدين، منذ الزيارة الأولى للرئيس شي جين بينغ إلى السعودية في العام 2016، والتي تلتها زيارة تاريخية قام بها العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز إلى العاصمة بكين في العام 2017.

وتواصلت تلك الزيارات المتبادلة بزيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الصين في العام 2019، والتي تم خلالها التوقيع على حزمة من الاتفاقيات الثنائية الاستثمارية بقيمة 65 مليار دولار، واتفاق نفطي بقيمة 10 مليارات دولار، لتصبح بذلك الصين المستورد الأول للنفط السعودي.

أما القمة الثانية فقد جمعت بين الرئيس الصيني وملوك وأمراء دول الخليج العربي، وهي بذلك تُعد الأولى من نوعها، باعتبار أن العلاقات الصينية – الخليجية لم تخرج طيلة السنوات الماضية من الإطار الثنائي، أي أن كل دولة خليجية كانت تُقيم علاقاتها مع الصين مُنفردة لأسباب اقتصادية أملتها حاجة بكين المُتزايدة إلى مادتي النفط والغاز الطبيعي.

وتم خلال هذه القمة بحث سلسلة من العناوين التي من شأنها تعزيز علاقات التعاون بين دول الخليج مجتمعة مع الصين، بما يرفع حجم المبادلات التجارية بين الجانبين إلى أكثر من 160 مليار دولار، بحسب آخر البيانات الإحصائية الصادرة في أعقاب تداعيات جائحة كوفيد – 19 على الاقتصاد العالمي.

وتأتي القمة الثالثة، أي القمة العربية – الصينية وفق عنوانها الأبرز، في إطار المبادرة العالمية للتنمية التي أطلقتها الصين بعد مبادرة “الطريق والحزام”، وهي مبادرة تهدف إلى ضمان تحقيق تنمية عالمية شاملة ومتوازنة لتحقيق الأهداف التنموية التي جاءت بها أجندة الأمم المتحدة للعام 2030 للتنمية المستدامة.

وعلى هذا الأساس، تُشكل هذه القمة رافدا جديدا من شأنه فتح آفاق كبيرة أمام تطوير التعاون الاقتصادي والتنموي العربي – الصيني، لاسيما في هذه الظروف الدولية التي تتسم باضطراب كبير شمل مختلف المجالات، عمقته الحرب الروسية – الأوكرانية التي تجاوزت تداعياتها الجانب الاقتصادي لتمس من قواعد التوازنات السياسية بأبعادها الإستراتيجية.

وهي بذلك تُعد فرصة أمام الدول العربية لتنويع علاقاتها السياسية والاقتصادية وكذلك أيضا الأمنية، وفق إستراتيجية تعاون تؤسس لمستقبل جديد يتم فيه تحقيق استفادة متبادلة بين الجانبين العربي والصيني، باعتبار أن الصين تُعد الشريك التجاري الأكبر للدول العربية بحجم مبادلات بلغ 330 مليار دولار في العام الماضي.

ويأخذ توقيت عقد هذه القمم العربية – الصينية أبعادا أخرى، لاسيما وأنه يأتي بعد أقل من 5 أشهر على القمة التاريخية التي جمعت في 16 يوليو الماضي بين الرئيس الأميركي جو بايدن وقادة دول مجلس التعاون الخليجي إلى جانب مصر والأردن والعراق في مدينة جدة السعودية، تحت شعار “قمة جدة للأمن والتنمية”، وذلك بمبادرة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز.

ويزيد هذا المعطى من حساسية ودقة التوقيت الذي يميز هذه القمم التي تحولت إلى حدث إستراتيجي بفعل الدور السياسي للسعودية وما أنتجه من تفاعلات على الصعيدين الإقليمي والدولي حملت رسائل عكست رؤية أضافت فارقا سياسيا بأبعاد إستراتيجية لم يعد بالإمكان تجاهلها أو القفز فوق مفاعيلها.

ونحسب أن هذه القمم فتحت بتوقيتها الذي يتسم بتسابق المقاربات المتنوعة، وعبر القضايا التي أدرجتها على جدول أعمالها بمفردات عناوينها وبمصطلحات الأجندات التي فرضها تعدد المشاريع السياسية، مساحة واسعة تفسح المجال لهامش مُستجد للمناورة التي تتسق مع الظروف المحيطة بمُجمل الحسابات والمعادلات في هذه المرحلة.

فالمرحلة وفق مختلف القراءات الموضوعية تشهد تصعيدا متعدد الأبعاد على مستوى المنطقة العربية، وخصوصا الخليجية منها، ويُشكل دور السعودية فيها حلقة حاسمة لرسم المعادلات الجديدة بمقاربات حديثة تستجيب لمختلف الرهانات بإضافات نوعية تُراعي مصالح العرب، التي امتزجت وتشاركت في النزوع الدولي نحو عالم جديد متعدد الأقطاب والمسارات والتوازنات.