الجمعي قاسمي يكتب:
تونس: اقتصاد يحتضر ودبلوماسية تائهة
يشهد الحراك السياسي في تونس نزعة واضحة نحو البحث عن مخارج للأزمة الناتجة عن عقدة “أداء اليمين الدستورية” وما تلاها من تصعيد مُتدحرج على صلة بها، أدخل البلاد في دائرة المحظور التي تُمهد لصدام بين مؤسسات الدولة التي استطاعت على مدى العقود الماضية رسم قواعد عمل مكنتها من تجنّب العواصف السياسية في أصعب الظروف.
وتكشف التطورات المتلاحقة المحيطة بهذه الأزمة أن التصعيد في المواقف خطا وللأسف الشديد خطوات متقدمة داخل المنطقة المحرّمة في العلاقات التي تحكم تلك المؤسسات، مخلفا بذلك ندوبا بخطوط متفرعة مست ركائز الدولة التي تبدأ بالملف الاقتصادي، ولا تنتهي عند الملف الدبلوماسي الذي تاه بين ثنايا هذه المواجهة والتفاصيل الملحقة بها.
الجزء الأكبر من ديون تونس الخارجية قد خُصص لتمويل ميزانية الدولة، وذلك بقيمة 1.34 مليار دولار بينما لم تحظ المشاريع العمومية سوى بنحو 290.9 مليون دولار
وقد لا نبالغ حين نقول إن هذه المواجهة بين الرئاسات الثلاث في تونس، وما خلفته إلى غاية الآن من زوابع سياسية عكست في رسائل متواترة، مناورة واضحة لإشغال الرأي العام برهانات خاطئة وعناوين خادعة، لإبعاده عن جوهر الأزمة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية التي اقتربت كثيرا من حافة الهاوية في سابقة خطيرة تُنذر بانعطافة مفتوحة على نتائج كارثية.
وتشابكت عناصر هذه المناورة بحيث لم يعد البناء على أجواء التفاؤل التي تتسرّب بين الحين والآخر من خلف الاتصالات والمشاورات بقرب تسوية هذه الأزمة، مُمكنا أو يصلح للدفع بصورة جديدة مُغايرة لواقع الحال الذي لا تترك مؤشراته المجال للشك بحجم المأزق الاقتصادي الذي يتململ على وقع ضجيج الأزمة السياسية واهتزازاتها العنيفة.
ولا تحتاج هذه الصورة التي تبدو قاتمة إلى شرح لعناصرها، ولا إلى توضيح لحوافها المتلاصقة ونتائج تداعياتها الجانبية، باعتبار أن المعطيات الدالة على ذلك كثيرة وواضحة في جزئياتها وتفاصيلها كما في عناوينها، والبيانات التي تزدحم بالمؤشرات والأرقام تحمل ما يكفي من الأدلة والقرائن التي تظهر أن الاقتصاد التونسي دخل بالفعل في مرحلة الاحتضار.
ولسنا هنا في وارد إجراء جردة حساب للواقع الاقتصادي التونسي، لكن ذلك لا يمنع من التوقف عند بعض المعطيات والأرقام الرسمية المُحيّنة والحديثة التي جاءت الوقائع على الأرض لتجزم بصحة الاستنتاج المذكور، المتعلق باحتضار اقتصاد البلاد، ولتؤكد أن الأزمة لا ترتبط بمعاييرها السياسية فقط وإنما أيضا بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية.
التطورات المتلاحقة المحيطة بالأزمة تكشف أن التصعيد في المواقف خطا وللأسف الشديد خطوات متقدمة داخل المنطقة المحرّمة في العلاقات التي تحكم مؤسسات الدولة
وفي التفاصيل الملحقة بهذه المعطيات، أصدرت مؤسسة “إي إيتش أس ماركت” المتخصصة في التحاليل الاقتصادية وإنجاز تقارير دورية حول أسواق المال في العالم، تقريرا الاثنين الماضي خصصت قسما منه حول تونس، ذكرت فيه أن المؤشرات المتعلقة بمديونية تونس تؤكد أنها تحولت إلى مديونية غير مستدامة وغير قابلة للتحمّل.
وأوضحت أن حجم المديونية العمومية للبلاد التونسية وصلت نسبته إلى 90 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وأن عجز الميزانية العامة للدولة المتوقع خلال العام 2020 يناهز 11.5 في المئة من ذات الناتج، لافتة إلى أن وكالة “فيتش رايتينغ” الأميركية تعتبر أن ضغوط القروض على تونس كبيرة وكبيرة جدا، وأن البلاد أصبحت مرتبطة بصفة خطيرة بالديون الخارجية.
وفي الرابع من الشهر الجاري، أظهر تقرير رسمي صادر عن وزارة المالية التونسية، حول “نتائج تنفيذ الميزانية العامة للدولة التونسية للعام 2020”، تفاقم عجز الميزانية بنسبة 91 في المئة في نهاية شهر نوفمبر الماضي، حيث بلغ هذا العجز خلال الفترة المذكورة 7.1 مليار دينار (2.58 مليار دولار) مقابل 3.7 مليار دينار (1.34 مليار دولار) خلال الفترة نفسها من العام 2019.
وأرجع التقرير هذا التفاقم إلى تراجع الموارد الذاتية للدولة بنسبة 6.7 في المئة مقابل ارتفاع إجمالي النفقات بنحو 6 في المئة، الأمر الذي تسبب في تطور موارد الاقتراض بنسبة 44 في المئة ليبلغ حجمها 13.6 مليار دينار (4.94 مليار دولار) في نهاية شهر نوفمبر من العام 2019.
ووفقا لهذا التقرير، فإن أصل المديونية العمومية تطور بنسبة 9 في المئة في نهاية شهر نوفمبر 2020، ليبلغ 91.7 مليار دينار (33.34 مليار دولار)، فيما ارتفعت خدمة الديون العمومية بنسبة 15 في المئة لتبلغ قيمتها 10.6 مليار دينار (3.85 مليار دولار).
والأخطر في هذا التقرير، أن الحسابات والموازين لا تأخذ بعين الاعتبار النتائج والتداعيات، ذلك أن الجزء الأكبر من ديون تونس الخارجية قد خُصص لتمويل ميزانية الدولة، وذلك بقيمة 3.7 مليار دينار (1.34 مليار دولار) بينما لم تحظ المشاريع العمومية سوى بنحو 800 مليون دينار (290.9 مليون دولار).
وكان يمكن إيجاد مُبررات لهذه الصورة التي تعكس مشهدا يتدحرج نحو الهاوية، لو توقف الفاعلون السياسيون عن المكابرة التي دفعتهم إلى تجاهل هذه المعطيات، والذهاب نحو التركيز على المسار الاقتصادي، والعمل على محاولة النهوض به عبر تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية، باعتبار أن الفعل الدبلوماسي بشقيه السياسي والاقتصادي يبقى ممرا قادرا على معادلة الحسابات الراهنة.
لكن هذا الممر الذي يسمح بإيجاد موقع لتونس في خارطة العلاقات الدولية وتوازناتها بما يُساعد على حلحلة الأزمة الاقتصادية من خلال الاستثمارات أو المساعدات، يبدو مُغلقا إلى غاية الآن لأسباب مجهولة جعلت الدبلوماسية التونسية غائبة وعاجزة، بل تائهة وسط مزايدات احتدمت بشعارات جعلت الرهان على هذا المدخل مُشتتا وغير ذي جدوى.
المواجهة بين الرئاسات الثلاث في تونس، وما خلفته إلى غاية الآن من زوابع سياسية عكست في رسائل متواترة، مناورة واضحة لإشغال الرأي العام برهانات خاطئة وعناوين خادعة
وفي دليل على ذلك، سجل رصد المتابعين للشأن التونسي غيابا ملحوظا ومتكررا وغير مبرر للرئيس قيس سعيد باعتباره مسؤولا عن العلاقات الخارجية وفقا لدستور البلاد، عن المحافل والملتقيات الدولية الهامة، منها منتدى السلام في باريس حول التنمية المستدامة (9 نوفمبر 2019).
كما تغيّب في نفس الشهر عن قمة ألمانيا – أفريقيا للاستثمار، وعن المؤتمر الحواري المتوسطي في نسخته الثالثة (30 نوفمبر و2 ديسمبر 2019)، ومؤتمر دافوس الاقتصادي العالمي (21 يناير 2020)، والقمة الأفريقية – الصينية (17 يونيو 2020)، وصولا إلى القمة الأفريقية 34 (8 فبراير الجاري).
ويؤشر هذا الغياب الذي لا يمكن تجاهله أو التغافل عن معطياته، بحوافه الاقتصادية الأخرى المتلاصقة، إلى ما يشبه الهروب إلى الأمام الذي من شأنه تعميق الأزمة والدفع بها نحو الانفجار الذي بدأت عناصره تتراكم على وقع الحراك الشعبي الغاضب الذي شمل غالبية محافظات البلاد.