إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):

التوفيق والتلفيق والهوية الاجتماعية

1

     الهُوية الاجتماعية لَيست تعبيرًا عن الولاء والانتماء فَحَسْب،بَل هي أيضًا تعبير عن السلوك الحياتي اليَومي، ودَوره المركزي في تثبيت شرعية وُجود الإنسان ، وتحقيق الجوهر التاريخي عن طريق توليد أنساق اجتماعية إبداعية ، وتكوين مناهج فكرية تحليلية ، وعدم الاكتفاء بالتلفيق بين الأضداد والعناصر المتعارضة ، ودفن النار تحت الرماد ، فالإنسانُ لن يستعيد جوهرَه الوجودي في بناء التاريخ إلا بالمشاركة في صناعة الأحداث ، وعدم التفرُّج عليها ، ولن يحصل المجتمعُ على شرعيته المركزية في مشروع النهضة الحضارية إلا بتشكيل سُلطة اعتبارية قائمة على قوة المنطق لا منطق القوة، تجمع كُلَّ الأطياف والتيارات ، وتعتمد مبدأ التَّوفيق لا التَّلفيق .

2

     الفرق بين التَّوفيق والتَّلفيق في مفهوم الهُوية الاجتماعية يتَّضح في طبيعة وظيفة كُل مِنهما على أرض الواقع، فالتَّوفيق هو الجمع بين العناصر الاجتماعية المُتَّفقة في الأُصول ، والمختلفة في الفُروع ، لأسباب تاريخية وضُغوطات نَفْسية وأهداف مَصلحية ، وإمكانيةُ التَّوفيق في هذه الحالة واردة بقُوَّة بسبب الجُذور المشتركة ، والأُسس المُتقاربة ، وإمكانية إزالة الموانع العَرَضِيَّة ، لأنَّ الجوهر واحد ومُتَّفق عليه . أمَّا التَّلفيق فهو مُحاولة الجمع بين عناصر اجتماعية مُتناقضة ، ومُختلفة في الأُصول والفُروع ، ومُتضادة بشكل جَذري عميق ، وهذا يجعل إمكانية الجَمْع مُستحيلة بسبب اختلاف المبدأ والظروف .

3

     الإشكاليةُ في السياق الاجتماعي لا تَكمن في الجهل بتعريف التَّوفيق والتَّلفيق،وإنما تَكمن في العِلْم بهما، وتوظيف هذا العِلْم لأغراض غَير عِلمية ، من أجل تحقيق مصالح شخصية ، والحصول على مكاسب نفعية ، تمامًا كالذي يَعرف الحَقَّ من أجل توظيفه لخدمة الباطل . وهذا الأمر في غاية الخطورة ، لأنه يُشكِّل تهديدًا وجوديًّا على الهُوية الاجتماعية، فهو يعني تجميع عناصر الضعف ، وتشتيت عناصر القوة ، وهذا يُمزِّق النسيجَ الاجتماعي ، ويَمنع التنميةَ بكل إفرازاتها وتراكيبها ، ويُلغي إمكانية النهوض بالفرد والجماعة . وهذا الانهيارُ الشامل مُرتبط بشكل وثيق مع سياسة وضع المسؤول في المكان غير المناسب ، خُضوعًا لاعتبارات الولاء ، وليس الكفاءة . وهذا الأمرُ هو أساس البناء السياسي للأنظمة الاستبدادية في كُل زمان ومكان ، فهي تَسعى إلى تثبيت وجودها لأطول وقت مُمكن ، دون أيِّ اعتبار لحل مشكلات الشعوب أو بناء الأوطان ، وهذا يَجعل الولاءَ الأعمى والتصفيق الدائم هُما المِعيارَيْن الوحيدَيْن لاختيار المسؤول . ومِن أجل تبرير هذه العملية ، وإلباسها ثَوبًا شرعيًّا ، يتم التلاعب بالمصطلحات السياسية ، وتَنميق الشعارات الرَّنانة ، وتَغيير طريقة تفكير العَقْل الجَمْعي عن طريق بعض وسائل الإعلام التي ارتضت لنَفْسها أن تكون مأجورةً ومُضلِّلة ، حيث تبثُّ الأكاذيب على مَدار الساعة ، كَي تُصبح حقائق واقعية ، ومِن ثَمَّ يتم تَصديقها ، وتقديمها كمُسلَّمات لا تَقبل النِّقاش. وكُل صاحب صَوت مُعارض لهذه الأوهام يتم تقديمه كخائن ومُنشق ومَدعوم من جهات خارجية لتنفيذ أجندة هَدَّامة . وهذه الحَلْقةُ المُفرغة لا تكتمل إلا عبر التلاعب بثنائية ( التَّوفيق / التَّلفيق ) ، وتوظيفها كسياسة اجتماعية تُحدِّد مسارَ الوجود الإنساني ومصيرَه . ومعَ مُرور الوقت ، وبفِعل الضَّخ الإعلامي والضغط السُّلطوي ، تتحوَّل هذه الثنائية إلى لعب بالبَيضة والحَجَر ، لتجذير الشعارات كمنهج سياسي ونظام اجتماعي دُون فِعل على الأرض ، ثُمَّ تتحوَّل ثنائية ( البَيضة / الحَجَر ) إلى ثنائية (العصا/ الجَزَرة) للتحكُّم بالمجتمع جُملةً وتفصيلًا ، وبسط السَّيطرة الكاملة عليه بالترغيب والترهيب، وهكذا يصير المجتمعُ كائنًا مَسْخًا بلا وُجود حقيقي ، ويتراجع على كافة المستويات ، لأنَّه فقد البوصلةَ، ولم يعد يُفرِّق بين الهُوية والهاوية .