علي الصراف يكتب:
الصين قوة عظمى غير ناضجة
لا شيء أكثر إثارة للتفاؤل في العلاقات الدولية، أو في الاقتصاد العالمي، من أن تكون الصين قوة رائدة.
والأمر لا يتعلق بالتوازنات الإستراتيجية في مواجهة القوى الأخرى فحسب، ولكنه يتعلق بالدرجة الأهم باختلاف النموذج.
التوازنات مهمة من جانبين على الأقل. الأول، أنها تحول دون تحوّل السلطة الدولية المطلقة إلى غطرسة وسلوك أرعن وتصرفات مزاجية. ولقد أظهرت سنوات رئاسة دونالد ترامب الأهمية القصوى لهذا العامل. صحيح أن الولايات المتحدة ظلت قادرة على أن تملي ما تشاء، إلا أنها للمرة الأولى أصبحت مضطرة إلى أن تأخذ بعين الاعتبار مواقف وأدوار القوى الدولية الأخرى، ومنها روسيا والاتحاد الأوروبي، وأن تتوقع منها معارضة صارمة وخيارات بديلة.
والثاني، هو أن المنافسة حافز مهم للتطور وتقديم الأفضل. وهذا الأمر لا يقتصر على التنافس التكنولوجي، الذي أصبح بمفرده القوة الدافعة الأكبر للفاعلية الاقتصادية ورفع مستويات البشر، ولكنه يمتد إلى كل وجه آخر من وجوه الحياة. فما لم يكن هناك نموذج يواجهك بالتحدي في السياسة والاقتصاد والأخلاقيات العامة، فإنك سرعان ما سوف تعتقد أن نموذجك هو الأمثل، وأنه وحده جدير بالحياة، حتى يأتي يوم وينهار كل شيء فوق رأسك.
الصين تقدم للعالم نموذجا اقتصاديا مختلفا، يجمع بين الرأسمالية وإدارة الدولة. ولقد تحولت إلى ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، بفضل النمو المتسارع الذي لم يتراجع عن معدل 7 في المئة سنويا، منذ أوائل الثمانيات في القرن الماضي إلى يومنا هذا. أربعون سنة من النمو والتراكم المادي والمعرفي وتطور التعليم ودعم المبادرة الفردية والابتكارات، وفرت الفرصة للصين لكي تتحول من دولة فقيرة (رغم ضخامتها من حيث المساحة وعدد السكان)، إلى دولة تمتلك واحدا من أعظم الاحتياطات النقدية، وحزمة هائلة من الاستثمارات الخارجية.
توفرت الفرصة لهذا البلد المنكفئ خلف أسواره ليتحوّل إلى قوة بناء وتعمير تندفع إلى الخارج، من دون أن تضع شروطا أيديولوجية أو تفرض نموذجا ثقافيا على أحد كما تفعل الرأسماليات الكبرى. شيء من قبيل “التنمية من أجل التنمية” فحسب، ذلك لأنها هدف جدير بالاعتبار بحد ذاته. ومثلما أنه يتيح لمصادر التمويل فرصا أكبر للثراء، فإنه يتيح للدول المستفيدة منه فرصا للنمو وللاستفادة الأمثل من الإمكانيات والموارد. وهذا ما عكسته بوضوح إستراتيجية “الحزام والطريق” التي وفرت مشاريع بناء للطرق والجسور والموانئ على امتداد عدة قارات.
صحيح تماما أنها فتحت طرقا أمام تدفق البضائع الصينية، إلا أنها وفرت موارد إضافية ضخمة للدول المستفيدة منها، وفتحت الطريق أمامها في الاتجاه الآخر، لتكون قادرة على توريد صناعاتها وموادها الأولية ورفع مستويات الحياة للملايين من البشر الذين توفرت لهم مواطن عمل جديدة.
كل هذا يتحقق، إنما في قوة عظمى ما يزال ينقصها النضج، كما تنقصها الثقة بالنفس، كما تنقصها القدرة على التعاطي مع الأفكار والثقافات والأديان بالمقدار المطلوب من الترفع والاستيعاب.
وهي تعجز لهذا السبب عن أن تكون قوة دولية ذات رأي، وظلت تجنح إلى التخفي خلف ستار من الصمت أو الاعتراض الخجول.
متى يصبح المرء جديرا بقوته؟ ببساطة، عندما يكون قادرا على التحرر من الخوف. وعندما يكون قادرا على التعامل مع الأفكار تعاملا براغماتيا على الأقل. بمعنى ألا ينظر إليها على أنها تهديد.
كيف يكون ذلك؟ ومن أين تأتي الثقة بالنفس؟ إنها تأتي من كفاءة النظام السياسي نفسه، ومن كفاءة المؤسسة، ومن قيمها وقواعدها المجردة التي تعلو فوق كل التمايزات الاجتماعية أو الثقافية، بل وتوظفها لصالح المزيد من الاستقرار والقوة، بدلا من أن تنظر إليها على أنها مصدر ضعف.
الحزب الشيوعي الصيني قوة تنظيمية هائلة. ويعود له الفضل في قيادة وتوجيه المجتمع. ولكنه، مثل أي قوة تنظيمية أخرى، يمكن أن يقود هذا المجتمع في الاتجاه الخطأ، فيدمره تدميرا تاما، ويحوله إلى مجتمع عبيد. وهذا ما حصل خلال سنوات ما يسمى بـ”الثورة الثقافية” التي أطلقها الزعيم ماو تسي تونغ عام 1966، ولكنها انتهت إلى أن وضعت الصين على شفير حرب أهلية وتمرد اجتماعي هائل بعد سنتين من ذلك.
لقد كان سقوط “الثورة الثقافية” درسا عظيما، ولكن لم يتم استيعابه كليا حتى الآن: لا تفرض تصورك الثقافي بالقهر والقوة.
قيادة مجتمع عبيد، لم يوفر نصرا اقتصاديا على التخلف، بل بالعكس زاده سوءا.
لا يمكن النظر إلى الحزب الشيوعي الصيني إلا من ثلاثة مستويات لكل منها دور مختلف. الأول، المؤسسة الإدارية العليا، وهي مصدر المشاريع والتوجهات الإستراتيجية، وهي بمعنى آخر “خلية التفكير” ذات الصلاحيات المطلقة. والثاني، هو المؤسسة التنظيمية، التي تتبع بعمى مطلق وطاعة لانهائية ما تمليه تلك الخلية. والثالث، منظومة أيديولوجية جامدة من الأفكار والافتراضات والخلاصات المسبقة.
كل هذه المستويات ما تزال واقعة تحت ضغط الخوف من أي ثقافة تقع خارج مألوفها الخاص. والدين، كتيار ثقافي مختلف، هو بالنسبة لها مثير للرعب حقا.
اضطهاد أقلية الإيغور المسلمة دليل واضح على ذلك. هذه الدولة على عظمة قدراتها البشرية والمادية، تخاف من 11 مليون مسلم، وتضعهم في سجن جماعي، وتقيد حرياتهم، وتحاربهم في تقاليدهم ومثلهم، وكأنها تحارب إمبريالية وهمية ثانية غير “الإمبريالية الأميركية”.
تزعم “خلية التفكير” أنها تريد أن تحارب فيهم “الانفصالية والإرهاب والتطرف”. أما الانفصالية، فهي غير واقعية حتى بالنسبة للإيغور أنفسهم. وإذا كانت لها من دوافع، فهي المعاملة الوحشية التي يتعرضون لها في كل تفصيل من تفاصيل حياتهم (من المأكل والملبس إلى العبادة). وأما الإرهاب، فإنه شيء مبالغ فيه، وقواعد تجريمه واضحة، وهو لا يبرر اضطهاد الجميع بجريرة عدد محدود من المجانين يوجد مثلهم في كل مجتمع. وأما التطرف، فإنه مفهوم فضفاض للغاية، ويستخدم كغطاء للاضطهاد الجماعي. ذلك لأن إطالة اللحية على سبيل المثال، بالنسبة لمنظمة الطاعة المطلقة، هو تطرف، وعدم شرب الكحول وأكل لحم الخنزير هو الآخر تطرف. وهات من يقنع الجمود العقلي بأن الامتناع عنها ليس تهديدا تاريخيا.
الأديان والثقافات وحرية التفكير، هي مصادر قوة لا ضعف، كما أنها دافع للتجديد والغنى الاجتماعي، عندما توضع في إطار نظام مؤسسي قادر على الاستيعاب والترفع والتحكم البراغماتي بالاختلاف بدلا من قمعه.
الصين لن تصبح قوة ناضجة إلا عندما تتحرر من الخوف. ونظامها السياسي لن يثبت أنه جدير بقوة دولية عظمى إلا عندما يصبح قادرا على الاستيعاب والترفع، فلا يضطهد دينا أو فكرا.
لقد خرجت الصين من أسوارها في الاقتصاد لتكتشف العالم. ومن العجيب كيف أنها ما تزال تعجز عن اجتراح خروج ثقافي مماثل حيال مواطنيها المسلمين أنفسهم، دع عنك مليار ونصف المليار آخرين، يحتاجونها كما تحتاجهم.