علي الصراف يكتب:
المصالحة الخليجية وقلعة التضامن
بيئة المصالحة الخليجية تكتسب هدوءا يكاد يمحو كل ما عداه. بما في ذلك ذكرى سنوات المقاطعة، وقضاياها، وما نشأ فيها من صخب. وفي ذلك ما يكفي للأمل، بأنه ربما كان وراء الأكمة ما وراءها.
دول المقاطعة السابقة، بقيادة السعودية، تريد أن تطوي الصفحة. بل وتريد أن تطويها من دون شروط ولا التزامات معلنة، لتقول لقطر إنها إذا كانت تخشى على سيادتها، فإن قفاز المخملية الخليجي لن يصيبها بأيّ ضرر.
والأمل، هو أن تدور سفينة التعديات دورتها كما تشاء، قبل تغيير الاتجاه، وفي المدى الزمني الذي تحتاجه. وليس مطلوبا من “التضامن الخليجي” أن يكون تضامنا تاما من جانبها. يكفي أن يُشار إليه على أنه موجود لساعة الشدة، وأنه مفيد حتى لمن يضرّ به.
عودة العلاقات الدبلوماسية، وعودة الطائرات وحركة النقل، وبعض التواصلات الخجولة، تحاول أن تقدم انطباعا بأن العلاقات تعود إلى “طبيعتها”، لتكسر معالم “الطبيعة” الأخرى التي نجمت عن سياسات التجريح والتجريم والإساءة المتعمدة التي جعلت من الإعلام القطري إعلاما متخصصا برش الملح على الجرح، والبحث عن المثالب.
المفيد في “الطبيعة” الجديدة، هو أنها مظهر يسمح بفتح طرق العودة إلى صواب التضامن، أو التعايش على الأقل. ولو حدث أن المال الذي كان يذهب إلى إيران، تحت غطاء رسوم العبور والرحلات الجوية، قد تقلص، فهو مفيد ظاهري آخر. رغم معرفة الجميع أن الشراكة القطرية الإيرانية، أعقد وأعمق من مجرّد بضع عشرات من الملايين. حقل الغاز المشترك بينهما يكفي بمفرده لتسريب عشرة أضعاف تلك الرسوم.
عين الحقد الإيراني إنما تنظر إلى الخليجيين بنظرة واحدة. لا العلاقات الودية مع قطر تغيّر فيها شيئا، ولا حتى أيّ حوار مزمع مع باقي دول المنطقة
أما ترسانة الإعلام، فهي كما هي، جاهزة لرش الملح ساعة ما تشاء. فلقد أثبت هذا السلاح جديته، كأداة من أدوات الابتزاز، والتعالي بالسيادة، والعزة بالإثم. وهو ممّا لا يمكن التضحية به. وبحكم أنه تحوّل إلى مرجعية قائمة بذاتها، فليس من واقعي الأمل، بأن ينقلب على نفسه. ليس بتلك السرعة على الأقل.
والصغائر كثيرة. التي وإن تعاليت عليها، فإن ابتلاع مراراتها شيء من تعابير الحكمة.
الميل إلى جعل المصالحة مسعى إلى كسب السعودية، على حساب الآخرين، أثبت فشله، لأن الآخرين ظلوا يعتبرون الأخ الكبير بينهم كبيرا وقادرا على أن يتخذ قرارا، ويمارس دوره القيادي. لأنه سيكون بذلك ضابط الضمير على الأقل في الحدّ من مقاصد الأذى.
المسألة الأهم هي الرعاية المكشوفة لتنظيم الإخوان المسلمين، التي لا تزال تبدو وكأنها التزام أثقل من كل الالتزامات الأخرى.
إذا كان ميل قطر إلى المصالحة جادا، ولو مع السعودية وحدها، فإن عبء تلك الرعاية يظل مكلفا، لأنه يجسد خطرا حقيقيا على الاستقرار فيها. ليس لأن بين الجماعة وبين السعودية ما صنع الحداد، بل لأن هذه الجماعة هي المنفذ العقائدي الأول لكل ما عرفته المملكة من أعمال إرهاب، ولها ذراع نفوذ طويلة وسط نخبة غير خفية بين بعض رجال الدين.
طيّ الصفحة، لا يطوي الخطر، إلا إذا توفرت التزامات محددة. وهذا ممّا لا يزال غامضا، أو أوليا في أحسن تقدير، ولا تزال أكمة “اتفاق العلا” تغطيه، لعل فرصة الأمل تأخذ حقها، فتظهر على لا غالب ولا مغلوب.
المخاطر الأخرى جسيمة أيضا. إيران من جهة. وتركيا من جهة أخرى. هاتان قوتان لا تخفيان حقيقة أنهما تتعاملان مع كل دول المنطقة وكأنهما شرطي الأمن الذي يتعين أن يرضخ لتهديداته ونفوذه الجميع.
التواطؤ مع إيران وتركيا، الذي جعل من قطر تبدو وكأنها حصان طروادة داخل القلعة الخليجية، يفترض أن يذهب الآن ليؤدي وظيفة أخرى، لتهدئة الملعب، والحد من التهديدات. إلّا أن هذا الافتراض متفائل للغاية. لسببين على الأقل. الأول، لأن إيران وتركيا لا تنظران إلى قطر كقوة مستقلة، وهما ترغبان بتوظيفها لخدمة الأطماع نفسها، بالتهدئة أو التصعيد على حدّ سواء. والثاني، هو أنهما قوتان مأزومتان، ولا تكفي التهدئة لكي تخرجهما من الأزمة. ولهذا السبب فإن التوتر سيظل قائما، والوساطة القطرية لن تجدي نفعا.
إيران تريد أن يتم رفع الحصار الاقتصادي عنها من دون أن تتوقف عن التهديد وزعزعة استقرار المنطقة. هذا أمر يتعلق بمشروع أبعد من قيمة العلاقة مع قطر. إنه مشروع وجود. وتركيا تريد أن تعود إلى ماضيها العثماني، ولعبت قطر، مع الأسف، الدور الأكبر في تحويله إلى مشروع حقيقي يتغذى بالمال والمرتزقة.
المأزومون في طهران وأنقرة لن يترددوا، إذا ما ضاقت بهم السبل، أن يفعلوا أي شيء. وأن يبتدعوا أي وسيلة للابتزاز
ماذا يبقى من الأمل؟
هناك وجهة واحدة جديرة بالاعتبار، هو أن يسلّم مقاتلو حصان طروادة أسلحتهم للقلعة. أو أن يترجلوا من حصان المكابرة. وهو ما يعني التسليم لقائد. بالضبط مثلما فعلت دول المقاطعة الأخرى حيال ضابط الضمير. فالسعودية هي في النهاية خادم مشروع الاستقرار والتضامن العربي والتنمية الأكبر في المنطقة. وهي التي، في ساعة الشدة، ستقف لتحمي قطر من التهديد.
المأزومون في طهران وأنقرة لن يترددوا، إذا ما ضاقت بهم السبل، أن يفعلوا أي شيء. وأن يبتدعوا أي وسيلة للابتزاز. ولقد كانت التكهنات الإيرانية بأن قطر لعبت دورا في مقتل قاسم سليماني، إشارة واضحة لذلك. فعلى الرغم من انكشافها كمجرد أكاذيب، إلّا أنها ظلت تعني ما تعني.
الخليجيون، وإن وجدوا أنفسهم يقاطعون قطر، إلا أنهم لم يهددوها، ولا عملوا على زعزعة استقرارها، ولم يكونوا بحاجة إلى ابتزازها أصلا. لا اليوم ولا غدا. فما لديهم هو ذاته ما لدى قطر ممّا يثير الحقد والحسد.
عين الحقد الإيراني إنما تنظر إلى الخليجيين بنظرة واحدة. لا العلاقات الودية مع قطر تغيّر فيها شيئا، ولا حتى أيّ حوار مزمع مع باقي دول المنطقة.
المأزوم هناك، يعرف أنه يحتاج إلى عشرين سنة على الأقل لكي يتغلب على أضرار عزلته وخرابه الداخلي. وهذا ما سوف يُبقيه خطرا.
ربما توفر وعيٌ يسمح لصانع القرار في قطر أن ينظر إلى المعادلات الكبيرة في المنطقة. وهذا ما قد يساعد في النهاية في التكابر على التكابر. ولعله يسمح بإعادة نظر جذرية إلى المخاطر الناجمة عن سياسات التمزيق وزعزعة الاستقرار، بكل ما تعنيه من أعمال رعاية لمنظمات الإرهاب، وفي مقدمتها تنظيمات الإخوان، وسياسات تمويل المرتزقة.
قطر حقيقة خليجية. هذا يكفي للاستعاضة عن قول الكثير. وكونها حقيقة خليجية، فذلك ما لا يؤهلها أن ترتدي ثوبا أيديولوجيا. كما لا يُنجيها من أعباء ما تتعرض له المنطقة من تهديدات وأعمال ابتزاز. وقلعة التضامن الخليجي هي القلعة. إذا شئت أن تدخلها، فادخلها آمنا ومؤمنا. ألا يُفترض بذلك أن يكون هو القاعدة؟