د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
النكتة السياسية عند العرب !!
تبر النكتة السياسية من أقدم وأطرف أشكال السخرية ، وأقوى وسائل التواصل الاجتماعية التي يتم تبادلها بين الناس والتي تحمل معاني التذمر والمعارضة الرمزية والمبطنة ، والسخرية من بعض أنظمة الحكم العربية ، وتقوم بنقل وترجمة مشاعر الإحباط والغضب والقهر على لسان المواطن البسيط الذي يتعرض كل يوم في حياته لشتى أنواع القهر والقمع كما تقوم بنقل المعاناة اليومية للمواطن ولشتى أنواع البطالة والفقر والحرمان، والتهميش لدرجة الغليان مما يُمهد لظهور النكتة السّياسية كأول علامة من علامات الرفض و العصيان والتمرد، وذلك من خلال النقد اللاذع الذي تُنقله النكتة السّياسية التي تعتبر فلسفة العوام وسلاحهم اللاذع، والتي لا يستطيع إلجامها لا حاكم ولا إمام، ولا يقدر على مراقبتها لا جهاز أمن ولا أي جهاز كان، فمنتجها غير معروف، ومروجها الشعب بكل أطيافه، فهي سلاح ظريف وطريف، تحمل نقدا لاذعا للساسة، الذي مارسوا السياسة بالجهل والصدفة، فهم أشبه بالجاهل الذي يُبحر بسفينة في عباب البحر.
من أشهر النكت العربية :
الجزائر :
كانت النكتة السياسية بالسبعينات تحمل مدلولات ثورية و تترجم العزة والثبات، الدهاء والحيل المُغيّبات، وتعكس الصراع بين الجزائر ودول الجوار … فأنتج الشعب الجزائري نُكتا ظريفة عن هواري بومدين، تُبين حربه مع الجيران،.
ومن أشهر النكت السياسية : أن الملك الحسن الثاني دعا رؤساء الجزائر وتونس وموريتانيا إلى مأدبة عشاء، وقد وضع على السفرة آواني من الذهب ومن الطعام ما تشتهيه الأعين، و كانت الملاعق من الذهب الخالص، والأقداح من الفضة، والصحون من العاج الغالي، … جلس بومدين وسط المائدة، عن يمينه الرئيس بورقيبة وعن يساره المختار ولد دادة … وبينما هم يأكلون أبصر بومدين كل من بورقيبة والمختار يضعان في جيبهما ملعقتين من الذهب، فأراد بومدين أن يحرجهما حرجا، فقال للملك الحسن الثاني : أيها الملك سأدخل ملعقتي في جيبي وسأخرجها من جيبي بورقيبة أولا، ثم أدخل أخرى في جيبي الآخر وأخرجها من جيب أخي المختار، فقال الملك: أو قادر على ذلك ؟!!… قال: بلى… فوضع الملعقة بجيب سترته ثم أخرج الملعقة الأولى من جيب بورقيبة، ثم أعاد الكرة فأخرجها من جيب المختار ولد داده… فرجع بملعقتين من ذهب ورجع الاثنان بخفي حنين!!
هذه النكتة من عشرات النكت التي كانت تمجد الدهاء والحنكة لساسة الجزائر!ّ!
2 – مصر :
يقول د. عبد الوهاب الروحاني :
((عند العرب، عرف الشعب المصري بكونه أكثر الشعوب العربية إنتاجا وتداولا للنكتة، فهو صاحب روح خفيفة ونكتة لاذعة، وازدهرت النكتة السياسية عند المصريين في زمن الرئيسين عبد الناصر والسادات، أما مادة التندر المجتمعية عندهم فهي ترتبط بالفلاحين من أبناء «صعيد» مصر، الذين يوصفون بالبراءة والنقاء والتلقائية، وتلجأ الشعوب إلي النكتة السياسية في زمن الأنظمة القمعية… فهي تعبير عن السخط الشعبي و مرحلة لبداية المقاومة))….
قال فرويد (النكتة تمثل آلية دفاعية لتفريغ والتنفيس عن المكبوتات.) .. قال ابن خلدون (إذا رأيت الناس تكثر الكلام المضحك وقت الكوارث فاعلم آن الفقر قد اطبق عليهم) وقال الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (النكتة هي محاولة قهر القهر وهتاف الصامتين) و رسام الكاريكاتير ناجي العلي قال (من يريد النكتة فعليه أن ينظر إلي الواقع السياسي العربي فهي تعتبر تعبير حقيقي للواقع السياسي الذي يصعب التعبير عنه في ظل الأنظمة الدكتاتورية…
في عهد الرئيس جمال عبد الناصر تم تخصيص قسم في المخابرات لرصد النكتة… أصبحت النكتة السياسية ترفع في تقارير أجهزة المخابرات كوسيلة لقياس الرأي العام… يقال أن عبد الناصر سمع موظف يقول لزميلة أن راتبه ينفذ بعد اليوم العاشر من الشهر فسأله زميلة كيف تعيش باقي أيام الشهر؟ فأجابه : (على الستر ) فاصدر عبد الناصر قرارا في اليوم التالي بتأميم الستر…..!!!
3 – اليمن :
مثلت حادثة سقوط العاصمة صنعاء وحصار منزل الرئيس المستقيل عبدربه منصور هادي وتقديم استقالته، وإصدار إعلان دستوري من قبل جماعة الحوثي جعل مقاليد الحكم تحت إمرة قائد حوثي يدعى "محمد علي الحوثي"؛ مثلت هذه الحادثة حالة من السخرية والسخط في آن واحد لدى كثير من أبناء الشعب اليمني.. فبين من شاهد صورة الحاكم الجديد وعلق بالسخرية أن هذا الحاكم "مرعب للأطفال". وآخر قام بعرض سيرته الذاتية وعلق عليها بالقول "كنا نشكو من رئيس عنده شهادة سادس ابتدائي، طلع لنا رئيس ما فيش عنده شهادة ميلاد" !ّ!
وعلق أحد الصحفيين اليمنيين على صورة محمد علي الحوثي قائلاً "هل تعرفون لماذا وضع الحوثيون هذا الشخص رئيساً؟ هذا من أجل الأطفال الصغار الذين لا ينامون، يتم تخويفهم بالرئيس الجديد حتى يذهبوا للنوم".
شعوب العالم كلها تقريبا تتشارك في خاصية إنتاج النكتة، وكلها تميل إلى الضحك والسخرية.. ولكن «المضحك» في النكتة عند علماء الاجتماع هو الذي لا يخرج عن المفهوم «الإنساني»، في الإثارة ولفت الانتباه، أي بما لا يتجاوز مشاعر وأحاسيس الناس، ولا يتعرض لدخائل الأشخاص والأسر، ولا يمس كرامتهم وإنسانيتهم. وهي عند اليمنيين ترتبط بأبناء «القبائل» من الفلاحين الريفيين، الذين ليسوا على حذق ونباهة ابن المدينة، وشاعت النكتة السياسية في اليمن مع أول رئيس للجمهورية المشير عبد الله السلال، الذي عرف بحبه للدعابة وقول النكتة، كما شاعت في ظل الرئيسين علي عبد الله صالح، وعبد ربه منصور هادي، اللذين نالا قصدا وافرا منها.
ورغم أن الشعب اليمني عرف في بعض مناطقه بالقسوة نتيجة ارتباطه بالطبيعة الجبلية الوعرة وعيشه في البيوت الصخرية الشاهقة والمعلقة في قمم الجبال لكنه لم يخل من مرح ونكتة، فقد تركت فيه النكبات التاريخية المتلاحقة أثر التعود، وبدأ يتعايش معها ويقاومها بالطرفة أو النكتة، التي تروى في مقايل «القات»، وفي جلسات الأصدقاء، وأصبحت تنتشر أيضا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد صاحب ظهور الأزمة السياسية اليمنية منذ عام 2011 ظهور الآلاف من الطرائف والنكات التي تقدم صورا لفظية أو أشكالا كاريكاتورية مرسومة، تعبر عن سخرية ونقد الشارع لشخصيات العمل السياسي في البلاد، وتتهكم على فشلهم في إدارة الشأن العام.
وفي عالمنا العربي خصوصا وفي اليمن بوجه أخص، فليس ثمّة طامة كبرى إلا ويتلقاها المواطن بكوميديا السخرية اللاذعة باحثا في ثناياها عن هامش الضحك لينتصر عليها شعوريا، وليقنع ذاته أنَّ الدنيا ما زالت بخير، ومن هنا فقد أصبحت الطرائف السياسية ليس مجرد تنفيس عن مشاعر السخط والألم فقط، بل وشارة انتصار على الواقع المبكي الذي يصدق فيه قول المثل العربي القديم (شرُّ البليّة ما يضحك)؟ !!
د.علوي عمر بن فريد