علي الصراف يكتب:
ما يجدر بلُجين أن تعرفه
الإصلاحات القانونية التي دفع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى إقرارها، تضع المملكة على عتبة عهد جديد.
المسألة أبعد من مجرد مواجهة ضغوط خارجية. إنها مسألة إصلاح لم يبدأ ولي العهد عهده إلا بالدعوة لها منذ يومه الأول.
العشوائية القانونية السابقة سوف تغيب ليحل محلها نظام قضائي واضح، يكفل أن تتوفر أسس للأحكام، كما يكفل أن تتوفر ضمانات لمن يقع تحت طائلة القانون.
أحد أهم دوافع الإصلاح القضائي، لا يتعلق بالقضايا الجنائية التقليدية، فهذه مما لا يثير الكثير من اللغط، وإنما ما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان والرأي والحريات العامة والمساواة والمرأة.
هل يوجد شك لدى أي أحد، بأن هذه القضايا هي ما يتم الغمز به من قناة السعودية دائما؟
هل يوجد شك، بأنّ لهذه القضايا هدفا آخر، غير حقوق الإنسان والحريات وغيرها؟ وإنها تُتخذ كتعلة لإلحاق الضرر بدور ومكانة المملكة وسياساتها وخياراتها في المنطقة؟
وهل يوجد شك، بأن للمجتمع السعودي قيما وتقاليد خاصة به، تستوجب الاحترام، لأنها سمة من سمات الثقافة والتاريخ والأعراف، التي لا تتغير بجرة قلم؟
التعري جزء من “حرية الرأي” في مونتريال. ولكنه ليس كذلك في جدة! ولا حتى في أي مدينة عربية أخرى.
ماذا نفعل لحرية الرأي، إذن، عندما تكون قالبا غربيا يتعين أن يرتديه الجميع أو أن يقيس قيمه وتقاليده بمقياسه؟
يندفع ولي العهد السعودي في إصلاحاته، بمقدار هائل من الشجاعة. وذلك إلى درجة تبرر الخوف منها عليه. ولكنه يقطع شوطا بعد آخر، مطمئنا إلى أن الإصلاح بات ضروريا، ويتعين على دولة، هي الآن من بين أكبر 20 اقتصادا في العالم، أن يمضي بها قدما. جانب من ذلك يعود إلى أنه من جيل مختلف. قريب تماما من جيل لُجين الهذلول، الناشطة التي أطلق سراحها أخيرا.
لُجين الهذلول عادت من كندا لكي تدافع عن المساواة وعن حقوق المرأة في المملكة، فوقعت ضحية نظام قضائي لم يألف “قضايا” من ذلك النوع الذي يهدد “القيم” و”التقاليد”، ولا أساس قانونيا لها أصلا. فدفعت ثمن المنطقة الرمادية بين مفهوم للحق يقيم وزنا للتقاليد والقيم الاجتماعية، ومفهوم آخر له يقيم وزنا للحقوق الفردية.
العراقيات، على سبيل المثال، كن يدافعن عن حقهن في السفور، من قبل 80 عاما، وفزن به، من قبل أن تنقلب الآية عندما حدثت الردة التي لحقت بتولي الميليشيات التابعة لإيران السلطة في العراق عقب غزو العام 2003.
لا أحد ينتقد انقلاب الظاهرة هناك، لا في الولايات المتحدة ولا في كندا. كما لا أحد ينتقد الانقلاب البشع الذي لحق بقانون الأحوال الشخصية العراقي الذي كان سائدا في عهد الرئيس الراحل صدام حسين.
يجدر ذكر هذا المثال، ليس للنظر في تاريخ الصراع من أجل المساواة بين الرجل والمرأة، وإنما للنظر في صلته بالسياسة.
الغرب انتقائي بقيمه. يكيل بمكيالين، ويعتبر ثقافته هي القاعدة. وهذه مشكلة لكل مثقف يتعين أن يتفحص موطئ قدميه، قبل أن تنزلق بمكيال، وتنتهي بالآخر.
الإصلاح في تونس، لا يمكن أن يكون هو نفسه الإصلاح في السعودية. المثقف، إذا شاء أن يتصرف كمثقف فعلا، لا يستطيع أن يوازي بين تاريخين اجتماعيين مختلفين إلى ذلك الحد. فكيف بالتوازي مع الغرب نفسه؟
يحتاج الأمر بعض استدراك على الأقل. يحتاج مستويين من الفهم. الأول في الطبيعة الاجتماعية لمطلب الإصلاح. والثاني في مؤدياته وتأثراته وأغراضه السياسية.
أنظر إلى الأمور من فوق، ترى شيئا مختلفا.
من حق المرأة أن تمارس التعري وترتدي ما تختاره من لباس. فاللباس مهما كشف عن مفاتن الجسد حق مشروع في الغرب، والنساء يتمتعن بحماية القانون، طالما لا يسئن بممارسة حريتهن إلى الآخرين.
ولكن المسألة لا تتوقف عند هذا الفاصل. هناك فاصل أشد وطأة في الواقع. وهو ما يتعين على لجين، وقريناتها من دعاة التحرر والمساواة، أن تعرفه. هو أن الدولة دولة في نهاية المطاف.
النظر إلى القضايا العامة، من مستوى إدارة الدولة، ليس كمثل النظر إليها من مستوى المرأة التي تريد أن تقود سيارة، أو أن تسافر من دون رقيب.
إنها حقوق بسيطة في الواقع. ويتعين كسبها، ولكن من داخل السياق الاجتماعي، وليس بإملائها من سياق آخر. وهي ما أن تتحول إلى مناسبة للصيد في الماء العكر على مستوى العلاقات بين الدول، فإن تلك الحقوق لا تعود هي نفسها. سوف تصبح موضوعا آخر، لا علاقة له بالحقوق الفردية أصلا، وإنما بالتدخلات في الشؤون الداخلية لبلد آخر.
جاستن ترودو، وهو من جيل محمد بن سلمان أيضا، لا يفهم تلك الشؤون الداخلية أصلا. لا يفهم أسسها ولا موجباتها ولا تاريخها ولا ثقافتها ولا ما تمليه على الحاكم طوعا أو قسرا.
ما يعنيه، هو أن يتعالى علينا بمفاهيمه الخاصة للحريات الفردية. وما يقصده هو أن يندفع لكي يمارس ضغوطا سياسية لأغراض تجارية، أو أن يندفع لإضعاف موقف البلد من بعض قضاياه الاستراتيجية الأخرى.
تتعرض السعودية لتهديد متواصل من ميليشيات إيران في اليمن. تتعرض أيضا لتهديد متواصل من التيار الديني المتشدد، الذي يتواطأ ضمنا مع فلول جماعة الإخوان. كما أنها تتعرض لتهديد مباشر من إيران. وما كان ضرب منشآت أرامكو إلا دليلا واحدا عليه.
أين تقف لجين وقريناتها من كل هذا؟ سؤال يستدعي استدراكا على الأقل.
الانتماء لوطن، يستدعي أن تقف لجين نفسها لتقول لترودو، “لا تخلط حابلا بنابل. قضيتي شيء، والنيل من السعودية شيء آخر”.
كثيرون في العراق كانوا يعدون أنفسهم معارضين لسلطة الدكتاتورية. ولكنهم تلقوا صفعة على الوجه، عندما رأوا كيف أن بلدهم تعرض للاغتصاب تحت دعاوى الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية.
كان الاستبداد أرحم، وأقل كلفة مليون مرة في بلد انتهى، تحت تلك الدعاوى، إلى خراب شامل، وضحية أفاقين تولوا السلطة ليفسدوا ويقتلوا وينتهكوا حقوق الملايين، وليدمروا مدنا بأسرها على رؤوس أهلها، من دون أن ينتقدهم أحد في الغرب نقدا حقيقيا، لأن ما يقومون بنهبه، يذهب إلى البنوك الغربية، مما يغني عن أي نقد أو تجريم.
سيقال، لا هذا ولا ذاك. هذا صحيح. ولكن السياقات تفرض نفسها في النهاية. المدافعون عن حقوق الإنسان وحرياته، أقل تأثيرا من أن يفرضوا سياقاتهم الخاصة في السباق مع غرب يريد أن يُملي مصالحه أولا. ويستطيع في كل وقت أن يسرق اللقمة من الفم. وهو عندما يتدخل مدافعا عن حقوق الإنسان، فليست حقوق الإنسان هي ما يهمه حقا.
التنافس الاستراتيجي مع الصين، يتخذ اليوم من انتقاد الانتهاكات التي يتعرض لها المسلمون الإيغور ركيزة له. منذ متى كانت حقوق المسلمين مهمة للغرب؟
هذا ما كان يجب أن يُفهم، من قبل أن نتلقى الصفعة.
الأمير محمد بن سلمان يتحول إلى ظاهرة إصلاحية، هو بمفرده. وهذا واحد من مصادر الخطر عليه، لأن الإصلاح ما لم يكن مدفوعا بقوة اجتماعية توازي مكانة العُرف وطبقة الدفاع عنه، فإنه مغامرة سياسية فعلية. ولكنه يتحدى الراكد والسائد في المألوف، ويستخدم نفوذه وحقوقه الملكية لكي يخدم حقوق مواطنيه. وهو يفعل ذلك أسرع مما يحتمل الكثيرون، ولكن أبطأ مما يريد الكثيرون أيضا. والميزان بين الاجتماعي والسياسي والديني والاستراتيجي أثقل من جبل على الكتف.
كل الذين هم من جيله، في السعودية وخارجها، يجب أن يناصروه، ويشدوا من أزره، ويتفهموا أن الميزان ميزان على الأقل.