محمد أبوالفضل يكتب:

عنف الإسلاميين يخفف الضغط عن الجيش السوداني

قررت السلطة الانتقالية في السودان مواجهة حزب المؤتمر الوطني الذي حكم خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير، ومعاقبته بشكل أكثر ضراوة كذراع سياسية لجماعة الإخوان المسلمين في البلاد، عقب فترة من الارتباك أوحت لكثيرين بأن الجناح العسكري في السلطة الحاكمة يتجنب فتح هذا الملف على مصراعيه.

فرضت تحركات عنف قامت بها قيادات وكوادر المؤتمر الوطني (المنحل) أخيرا على المكون العسكري عدم الصمت طويلا، حيث تسببت فلول البشير في توتير الأوضاع في عدد من المدن السودانية، وقاموا بحرق وتدمير بعض المنشآت الحكومية والخاصة وتحريض المواطنين على التذمر.

يؤدي أي صمت أو تجاهل لهذه التصرفات إلى حدوث ارتدادات سلبية على قيادات رفيعة في الجيش، ويتم تكريس اتهامات سابقة بتواطؤ البعض فيه مع الحركة الإسلامية بالسودان، لذلك جرى القبض على العشرات من المنتمين إليها، ليضافوا إلى عشرات سبق إلقاء القبض عليهم، علاوة على البشير المطلوب أيضا مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهناك انقسام حول تسليمه أو محاكمته في الداخل.

شهدت الأيام الماضية تراشقات حول آليات عمل لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال، ووجهت قوى مدنية للجيش تهما مباشرة بعدم الجدية في التعامل معها، ما جعل الحكومة تدخل على الخط، وترمي بثقلها لسحب البساط من تحت أقدام الشق العسكري في قضية تمثل عصب الثورة في السودان، بما يقلل من شعبية الجيش في الشارع، ويمنح المزيد من الثقة للحكومة والتعويل على قدرتها في حل القضايا الشائكة.

بصرف النظر عن التوترات المعلنة والمكتومة بين المكونين حول قضايا مختلفة، يظل التعامل مع فلول البشير ملفا ملغوما، ومحاطا بكثير من الغموض لدى المكون العسكري، ويؤثر الأداء المتكاسل على مستقبله، إذا كان طامحا وطامعا في السلطة، من هنا قرر عدم التهاون، وتحويل ورقة الإسلاميين إلى رأس حربة في يده بدلا من أن تصبح سيفا مسلطا على رقبة قياداته.

أدركت قيادات رفيعة أن الحسم مع التيار الإسلاموي يمكن أن يكون عملية رابحة، من جهة نفي العلاقة معه أمام الشارع وتفويت الفرصة على القوى المدنية التي أرادت تسويق فكرة وجود نوايا داخل الجيش لعودة نظام البشير، الأمر الذي يلهب الشارع ويصور الشق العسكري في مجلس السيادة على أنه يدعم التيار الإسلامي.

يتجه رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان إلى خطف هذه الورقة، وبدلا من أن تُحسب عليه يعمل على أن تكون في صالحه، ما يتطلب خوض مواجهة مضنية حتى آخرها، ويمكن أن تشهد المزيد من التوترات، لأن فلول البشير بأطيافهم الإسلاموية لن يتحملوا إقصاء منظما، وسوف يلجأون إلى ممارسة عنف ممنهج ويتخلون عن العنف العشوائي الذي شهدته مدن في شرق وغرب السودان.

يبرر عنف هؤلاء استخدام عنف مضاد من قبل الأجهزة الأمنية لتستقر الأوضاع، لكنه قد يؤدي إلى اتساع دائرته الجهنمية ويظهر الإرهاب في ربوع السودان الحافل بقوى متشددة كوسيلة معروفة لدى القوى الإسلامية عندما تتراجع الحيل السياسية، بالتالي تبدو هناك حاجة قوية إلى القبضة العسكرية وتتوارى الأدوات السلمية.

رغم تأكيدات البرهان بتسليم السلطة في البلاد لقيادة مدنية في النصف الثاني من مدة المرحلة الانتقالية، غير أن بعض المؤشرات لم تخف رغبته في الاستمرار وعدم التنازل عن مقعده كرئيس لمجلس السيادة، وربما تمهيد الأجواء ليكون رئيسا منتخبا بعد ذلك من خلال عملية سياسية يخلع فيها بزته العسكرية، ويلتزم بشكل ديمقراطي يخفف حدة الرفض المتوقع.

لن يستطيع تمرير سيناريو من هذا النوع بسهولة، إلا إذا كانت هناك دوافع ضرورية، فقد نجحت المؤسسة العسكرية في كسب تأييد شعبي في المعارك الدائرة لاسترداد أراض سودانية تقع تحت السيطرة الإثيوبية في شرق البلاد، لكنها غير كافية للمطالبة باستمرار الفريق البرهان في سدة السلطة، ففي النهاية يخوض الجيش معركة هي من صميم دوره في حماية الوطن، وقد يراها البعض مُختلقة لتعويمه سياسيا.

تمثل مواجهة فلول البشير أم المعارك السياسية في السودان، والتي لم ينتبه لها المكون العسكري في البداية، أو حاول تأجيلها والتسويف فيها، على أمل تثبيت أقدامه دون اللجوء إلى ورقة يمكن أن يترتب عليها إزعاج في صفوفه.

فرضت قواعد اللعبة بين المكونين العسكري والمدني عدم الدخول في ملفات صدامية بعد الثورة، وحاول كل طرف الانحناء للعواصف، لأن المواجهة تؤثر على كليهما، في فترة يحاول فيها السودان استعادة توازنه السياسي والأمني والاقتصادي، وتنحية ورقة البشير وفلوله واستخدامها عندما يجد فيها أحد الطرفين وسيلة لغايات أخرى، ففي كل جانب عناصر تعتقد بأهمية المصالحة مع القوى الإسلامية.

خاب ظن هؤلاء، على الجانبين، وسط الأزمات المعقدة التي تمر بها البلاد، ولم يجد كلاهما سوى هذه الورقة لتوظيفها سياسيا، حتى خرجت من الخفاء إلى العلن، عقب قيام فلول البشير بارتكاب أعمال عنف متفرقة يمكن أن تقود إلى إلحاق أذى بالطرفين، إذا جرى الصمت عن الجرائم التي باتت واضحة للعيان.

فرضت ممارسة العنف الواسع إجراءات صارمة، وهو ما وضع الكرة في ملعب المكون العسكري الذي وجد أمامه أحد خيارين، إما التهاون وانفلات الأمور من عقالها ويتضرر الجميع، أو التدخل واستثمار هذه الورقة لنفي ما يتردد عن صفقات مشبوهة بين الجيش وبقايا نظام البشير، وكسب المزيد من الشعبية في الشارع.

اختار رئيس مجلس السيادة الحل الثاني، والذي لم تختلف معه الحكومة في كثير من مقاطعه، وجرت اعتقالات كثيرة لقيادات متعددة في حزب المؤتمر الوطني مؤخرا، وبدا الجيش أكثر مصداقية في دعم توجهات الثورة، لأن طريقة التعامل مع فلول البشير تراها قوى مدنية مقياسا أصيلا لدرجة الولاء للثورة.

لذلك سيتعامل المكون العسكري بمزيد من القسوة مع حزب المؤتمر الوطني وحسم في ملف إزالة التمكين، لأنه يعرف المفاتيح الرئيسية، ومناطق الخطورة والضعف في الأجنحة المسلحة والسياسية، كي يتمدد البرهان في النسيج المدني المتشكك فيه، وقبل أن تتلقى القوى الإسلامية دعما معنويا من الإدارة الأميركية.

ويصبح الموقف عصيا على الاحتواء والتطويق، فتسخين هذه المساحة من جانبه يمكن أن يضمن له دعما في الأوساط الشعبية، ويخفف الضغوط على المكون العسكري الذي من المرجح أن يتحول إلى ملاذ لمؤيدي الثورة في مواجهة تأجلت كثيرا.