فاروق يوسف يكتب:
سيعيش البابا في العراق أقسى أيامه
سيقضي البابا فرنسيس أربعة أيام في العراق. الزيارة التاريخية ستكون بمثابة وعد رمزي متأخر. فمسيحيو العراق في حالة يأس شديد.
لقد تناقصت أعدادهم تدريجيا من 1.5 مليون نسمة إلى 250 ألفا، وليس هناك من أمل في أن يبقى ذلك الرقم عند ذلك المستوى.
ليس هناك في الأفق ما يبشّر بأن يستعيد العراق قدرته السابقة على أن يكون بلدا متعدد الأعراق والأديان والطوائف، وطنا للجميع. لقد مضى ذلك العراق من غير رجعة.
العراق الذي سيزوره البابا هو بلد طارد لأكثر أبنائه أصالة وعراقة وانتماء، وهم المسيحيون الذين سينظرون إليه بعيون دامعة، لا من شدة الشوق والورع بل إشفاقا على أنفسهم.
لقد بدأ مسلسل تهجيرهم منذ أن سقطت الدولة العراقية عام 2003، وصاروا تحت رحمة ميليشيات متعددة الاتجاهات ومختلفة في ما بينها، غير أنها اتفقت على كراهيتهم ونبذهم وتكفيرهم.
سيكون البابا فرنسيس زائرا غريبا ومقهورا، بل ومهزوما في بلد النبي إبراهيم حسب الرواية الدينية. قيل إنه سيزور الموصل. فهل ستكون زيارته من أجل أن يرى بعينيه حجم الكارثة التي عاشها المسيحيون، بعد أن هدمت كنائسهم وأديرتهم ونهبت ممتلكاتهم وأحرقت بيوتهم وتعرضوا للقتل على الهوية؟
لن يعفي العراقيين من الخطيئة إلقاء اللوم على داعش. لا لأن داعش ليس غريبا عنهم فحسب، بل وأيضا لأن من طرد داعش كان بقسوة ذلك التنظيم الإرهابي على أهل الموصل والمسيحيين منهم، إن لم يكن أقسى.
ولكن ألا يفكر البابا في الذهاب إلى موطن النبي إبراهيم، مدينته التي خرج منها إلى العالم “أور” التي تحاذي الناصرية، وهي المدينة الملتهبة باحتجاجات المحرومين والفقراء من أبناء ذلك البلد الثري؟ سيرى الفضيحة مجسدة بطريقة مختلفة. ذلك شعب يتعرض للهلاك والقتل العمد، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو مذهبه أو ما يصرح به.
لن يقول البابا شيئا من جهة كونه شاهدا. فهو لا يقوى على أن يفعل شيئا ما دام الأمر كله صناعة أميركية. لا تنفع شجاعته في شيء. لن تنفع المسيحيين الذين يتمنى لو أنهم لا يتركون أرضهم، شرقهم الذي خرجت منه المسيحية. ذلك ما يتمناه كل مسيحي عراقي. ما هو مؤكد أن مسيحيي المهجر هم أكثر العراقيين حنينا إلى العراق وشوقا إليه. لكن الأمر كله خرج من المنطقة التي تتحكم بها العاطفة. فالعراق دولة تحكمها الميليشيات التي لا تعرف شيئا عن تاريخ ذلك البلد، الذي كان تنوع تركيبته البشرية هو مصدر غناه الثقافي وسنده التاريخي.
العراق اليوم دولة يحكمها الجهلة والمتعصبون والمتطرفون والمحتالون. يتمنى المرء لو أن البابا اجتمع مع زعماء تلك الدولة من أجل أن يرى قتلة السيد المسيح بعينيه المباشرتين على أرض الواقع، بدلا من أن يراهم في رسوم عصر النهضة أو يفكر فيهم من خلال قراءته للأناجيل.
لقد تأخرت كنيسة روما في إنقاذ شعبها.
لن تكون زيارة البابا فرنسيس زيارة دينية. فليس في العراق ما يُزار من المعالم التاريخية المسيحية. لم يبق شيء. لقد دمرت الهمجية كل شيء. لذلك يمكن اعتبار تلك الزيارة زيارة سياسية من طرف واحد.
سيتابع مسيحيو المهجر تفاصيل تلك الزيارة، بطريقة تتفوق عاطفيا على الطريقة التي يتابع من خلالها مسيحيو الداخل تلك التفاصيل.
وإذا كان مسيحيو العراق مثل كل الكائنات البشرية يكذبون، فإنهم في حبهم للعراق لا يكذبون. ذلك ما لا يعرفه البابا.
أنا على يقين من أن البابا سيقول كلاما جارحا مهما حاول أن يكون لطيفا. ولكنه قد يدافع عن مسيحيي العراق باعتبارهم شعبا مستضعفا، وهو ما يناقض الحقيقة التاريخية. فالمسيحيون هم أبناء العراق الأصلاء. تلك حقيقة كان العراقيون كلهم يعترفون بها ويتعاملون معها بإيجابية إلى أن حلت كارثة الاحتلال، التي جلبت معها الغرباء الذين أعمتهم غرائزهم الطائفية عن رؤية كل حقيقة.
لن يزايد أحد على عراقية المسيحيين.
ذلك ما يجب أن يسمعه البابا الذي سيحل ضيفا لمرة واحدة على أرض تعرضت للخيانة. فإذا كان عراقيو الزمن الإيراني قد ارتكبوا الخطيئة جهارا في حق المسيحيين، فإن من مسؤولية بابا الفاتيكان أن يكون صريحا معهم، بأن إفراغ الأرض من شعبها هو عمل همجي لا يمت إلى الأديان بصلة ولا يمكن غفرانه أو المرور به بشكل عابر.
لن يكون البابا محرجا في ما يقول.
لقد أبيد وهُجر شعب مسالم كان وجوده يمثل جزءا من روح العراق، لا لشيء إلا من أجل أن يُلحق ذلك البلد العريق بدولة يحكمها نظام متخلف تسيطر عليه مجموعة من المعتوهين الذين انفصلوا عن الحياة الحقة.
البابا في العراق حدث استثنائي لا يتكرر. ليت البابا يستغله ليقول الحقيقة. حقيقة ما حدث وحقيقة ما سيراه وحقيقة ما يفكر فيه.
أنا على يقين من أن كل كلمة سيقولها البابا، ستكون أقل من صدمته في بلاد تخون نفسها كل لحظة.