هيثم الزبيدي يكتب:
لا يمكن الاستهانة بأثر اللغة التركية ومشروع أردوغان القومي
لو تصادف أن عشت في مدينة كركوك أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، ستدرك طبيعة القلق الذي صاحب سكانها من التركمان منذ انهيار الدولة العثمانية وتأسيس الدولة العراقية الحديثة. هذه أقلية عرقية صغيرة العدد كبيرة التأثير تتحدث التركية وتنتمي عرقيا إلى الأتراك. أهميتها تزيد عن عدد المنتمين إليها أو انتشارهم في كركوك والبلدات والقرى التي تحيط بالمدينة أو قريبة منها. أقلية تعايشت طويلا مع كراهيتها للأكراد ومخاوفها من بغداد. أقلية دافعت عن وجودها المستحق وسط مدينة كركوك، وأصرت أن تحافظ على لغتها وامتدادها التركي. ولم يفدها كثيرا تواجدها المكثف في مدينة رئيسية مثل كركوك، بل ساعد على استهداف التركمان من الآخرين، من مجزرة كركوك عام 1959 إلى الاستفتاء عام 2017. الحامي التركي ظل يلوح منذ فترة طويلة. لكن كل مخاوف التركمان تحققت. ها هي بين ضغط الأكراد وتسلل العرب من الجنوب منذ السبعينات، وحرص الحكومة المركزية على إبقاء الأمور معلقة بينها وبين الأكراد حول كركوك، من دون النظر بتمعن لما يعنيه كل هذا للتركمان، أو حتى للأكراد ممن يؤكدون أن كركوك التاريخية لهم وأنهم أنفسهم ضحايا التهجير.
لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعرف ماذا يعني أن يتمسك التركمان بعراقيتهم معا وامتدادهم التركي العرقي. هو أذكى من أن يضيع فرصة مثل هذه. الحس القومي واللغة سلاحان لا يحتاجان إلى من يزكيهما.
المثال البسيط القادم من كركوك فقط للإشارة. مشروع أردوغان أوسع نطاقا وأكثر حنكة، وقد وفر له الرئيس التركي الكثير من المعطيات المادية. لكنه الآن بوضع الاستثمار بالبعد المعنوي. هو يعتقد أن الوقت قد حان لإعادة تأسيس إمبراطورية تركية بمواصفات جديدة. إمبراطورية معنوية قائمة على شبكة المصالح والارتباطات مع دول قائمة ومهمة ومؤثرة أو مع دول تنتظر دعمه.
لا يحتاج أردوغان أن يذهب بعيدا في التاريخ. يقلب فقط صفحات أول التسعينات. يتعلم من خطأ استراتيجي ارتكبه الرئيس التركي الراحل توركت أوزال. حين انهار الاتحاد السوفييتي، بحثت سلسلة الدول التي تمتد من حدود الصين إلى حافات تركيا عن أب روحي. كانت تركيا بوضع مثالي لتوفير هذه الأبوة، لكنها كانت بهوى أوروبي. ضيعت الفرصة كي تؤسس منطقة نفوذ.
الآن أردوغان أكثر من مستعد. مهد الطريق سياسيا واقتصاديا. أعد الفكرة أيديولوجيا بتبنيه لخليط بين القومية التركية والإسلام السياسي، ودعم موقفه باقتصاد تركي في تصاعد مستمر على مدى عقود، قبل أن يدخل دوامة الاقتراض والعبث الذي مارسه أمثال نسيبه الوزير السابق براءت البيرق. ما فات على السياسة والفكر الأيديولوجي والاقتصاد يتكفل به جهاز المخابرات أو يترك للجيش. جهاز مخابرات يعمل بلا انقطاع منذ زمن الدولة السلجوقية، وجيش يرى نفسه امتدادا للانكشارية. بقي شيئان التقطهما أردوغان مؤخرا: اللغة التركية/القومية التركية والتأطير الأيديولوجي للقوة التركية.
يقول لك الأتراك ذهبنا إلى مصراتة لكي نحمي أتراكا عرقيين، هم مواطنون ليبيون بهوى تركي. انتصروا لهم وصار لتركيا موطئ قدم في شمال أفريقيا. لا يتحدث أهل مصراتة التركية، ولكن الهوى التركي محسوس، وقد تزايد بشكل أكبر بالدعم غير المتردد الذي وجهه لهم أردوغان.
يقولون أيضا ذهبنا إلى أذربيجان. الأذريون أتراك قلبا وقالبا. لكنهم شيعة، مما يوحي بأنهم أقرب إلى إيران. أردوغان أدرك أهمية العرق واللغة وأنهما يأتيان قبل الطائفية. تدخل بمسيراته وخبرائه وحسم الحرب مع أرمينيا. إيران بقيت تتفرج.
الآن حان أوان التذكير بالمشروع القومي الإمبراطوري الجديد.
خذ أول مثال. أردوغان الآن يتحدث بالمفتوح عن “العالم التركي”. عالم تركي عرقا ولسانا. يقول بلا تردد أمام رئيس الوزراء الأذري “لقد أظهر العالم التركي أهمية التضامن والتعاون والعمل المشترك، في كافة الأصعدة ابتداء من حرب مرتفعات قره باغ، ومرحلة جائحة كورونا ومرورا بالدبلوماسية والدفاع ووصولا إلى الصحة والزراعة والسياحة والطاقة”. يطلق حملة “التركية لغة عالمية” في احتفالية الشاعر التركي يونس أمره. اللغة حسب وصفه “هي من تحرس الوطن أولا ثم الجيش”. نلاحظ الإشارة إلى الجيش في مناسبة عن اللغة وشاعر. نلاحظ أيضا أنه يتحدث للشباب ويدعوهم لاسترجاع إرثهم العثماني التركي. يقول لهم: تعلموا قراءة شواهد القبور لأنها مكتوبة بألفبائية تم استبدالها، ولا تكثروا من حشر المفردات الإنجليزية والفرنسية في اللغة التركية. ثم شكر ممثلي أذربيجان والبوسنة والهرسك وشمال مقدونيا لدى اليونسكو لدعمهم مشروع يونس أمره وسنته العالمية. كأنه يقول نريد أن نشكر دولا أكثر قريبا.
التأطير الأيديولوجي يحتاج إلى استذكار الانتصارات. الجيش التركي الآن بوضع قوي بعد تحقيق الانتصارات في ليبيا وأذربيجان. يجب رفع معنوياته في حربه المتعثرة على الأكراد. نستدعي التاريخ الانكشاري. إنها الشخصية شبه الأسطورية للأب الروحي للانكشاريين حاج بكتاش ولي الذي عاش قبل 750 سنة. استدعاه أردوغان وعمل له سنته الخاصة.
البكتاشية جزء من التنظيم العقائدي للجيش الانكشاري، الذي كان العمود الفقري للجيش العثماني والقوة الضاربة بأيدي السلاطين. كانت هذه الطريقة الصوفية هي المنهج في تجنيد الانكشاريين ممن يستقدمون من أعراق مختلفة، وديانة مسيحية في الغالب. استخدمها السلاطين بكفاءة كبيرة، وأصبحت من أهم الطرق الصوفية في هيكلية الدولة العثمانية.
لم تغب عن ذهن أردوغان حقيقة أن حاج بكتاش ولي ولد في نيسابور في خوارزم شاه. الامتداد التركي حاضر والنسل العلوي: اسمعي يا أذربيجان! هذا الترابط مهم عندما يتعلق الأمر بشيخ طريقة صوفية، يجند الأولاد المسيحيين في البلقان، وينشئ منهم كتائب الانكشارية. حاج بكتاش ولي أصبح هوية.
أردوغان يريد استكمال سبحة إمبراطوريته. هذه فرصة تاريخية له لا يمكن أن تضيع. انسحب من المشروع الأوروبي. النفوذ في أوروبا تركه للملايين من الأتراك المقيمين والمجنسين، ولمئات الآلاف من المسلمين ممن صاروا متأثرين بفكره وطريقته، سواء لأنهم إخوان تنظيميا أو ممن يبحثون عن بطل. هذا أوان الامتداد القوقازي الآسيوي.
لا نعرف إن كان أردوغان قد قرأ تجربة صعود ثم انكفاء المشروع الناصري. لكن من المؤكد أن هناك من الإخوان المسلمين المصريين ممن سينصحه بالاطلاع على تجربة جمال عبدالناصر وقوميته والنجاح في البداية، ثم تراكم أخطاء السياسات الداخلية والإقليمية والعالمية، وصولا إلى النكسة والانهيار. أردوغان يكثر من الأخطاء لكنه يتعلم بسرعة ويتأقلم أسرع.
كركوك وتركمانها مهمان، ومصراتة وأصول أبنائها أهم. لكن خارطة أردوغان أوسع بكثير.