علي الصراف يكتب:

قبل أن تنتحر فتح على أسوار الانتخابات

أمام حقيقة التفكك المتواصل لحركة فتح، يستطيع الرئيس محمود عباس أن يوقع على ثلاثة قرارات أخيرة: أن يبقي باب الترشيحات مفتوحا لإعادة تنظيم القوائم الانتخابية، وأن يرجئ موعد الانتخابات شهرا واحدا، وأن يستقيل.

حركة فتح التي مزقها الرئيس عباس بغطرسته، يمكن أن تعود لتتوحد من جديد. لا التيار الإصلاحي الذي يقوده محمد دحلان، ولا ناصر القدوة، ولا مروان البرغوثي سوف يترددون في تلبية نداء استعادة الوحدة.

اجتماع عاجل لكل قيادات الحركة، يُسلّم فيه الرئيس عباس العهدة، هو أفضل الخيارات الشخصية له ولفتح، بدلا من أن ينتحر هو والحركة على أسوار الانتخابات.

واضح للجميع، وللرئيس عباس نفسه، أن قائمة فتح الرسمية سوف تمنى بهزيمة ساحقة، لو بقي التشرذم كما هو. وما لم تدفع مشاعر الخذلان المبكرة إلى الاستدراك فإن التخبط سوف يكشف عن عمى لا حدود له، بل وعن ميل للتدمير لا مبرر له أصلا.

حركة فتح ليست مجرد حزب، ولا مجرد إرث، ولا مجرد سلطة، إنها التنظيم الوحيد الذي يمكن أن يعتبر نفسه الخيمة الفلسطينية الجامعة، التي تتسع لأفكار وتيارات وتصورات سياسية وفكرية مختلفة.

هذه الطبيعة هي التي حاول عباس أن يدمرها، لكي ينشئ تنظيما يشبهه هو، بدلا من أن يشبه شعبه.

يستطيع أن يتغطرس. لا توجد مشكلة. وسيلقى العقاب المناسب. ليس بهزيمة نكراء تنتظر قائمة فتح للانتخابات التشريعية فحسب، وإنما لما يمكن لهذه الهزيمة أن تعنيه بالنسبة إلى قيادات الحركة.

بعض هذه القيادات لا يخفي تذمره من واقع الحال. ومن غير المستبعد أن يتحول التذمر إلى صدام مكشوف، بل وربما قد ينتهي إلى المطالبة بعزله.

لا يحتاج الرئيس عباس أن يصل بالمطاف إلى هذه النهاية. الانسحاب بلطف لا يحفظ المكانة فحسب، ولكنه يحفظ الكرامة أيضا.

كل الذين تغطرسوا في سلطتهم وآثروا أن يركبوا رؤوسهم حتى النهاية انتهوا إلى أن تقطعت رؤوسهم.

هذا لن يحصل بالمعنى الحرفي طبعا، فالفلسطينيون ليسوا من هذه الطينة، إلا أنه يمكن أن يحصل بكل المعاني الرمزية الأخرى.

الذين يحبون الرئيس عباس هم أنفسهم الذين يتعين أن ينبروا لنصحه، على الأقل لكي يبقى ما يبرر الدفاع عنه وعن سياساته وخياراته، وعلى الأقل لكي يحافظ على مكانته في السجل النضالي لشعبه.

سوف ينظر الناظرون إلى ماضي حركة فتح إليه بتعاطف أكبر، ويستغفرون له أخطاءه ويعثرون على “تفسير آخر” لأسباب فشله.

هذه الفسحة لن تتاح إلا بالتنازل المبكر عن السلطة، لكي يثبت الرئيس عباس أنه قادر على التضحية من أجل خير الحركة التي يقودها، ومن أجل أن تحفظ مكانتها بين أوساط الفلسطينيين.

التنازل، سوف يعني أنه هو “أم الولد”. و”الولد” يوشك أن يقع ضحية تمزق لم يسبق له مثيل منذ نشأة الحركة في الأول من يناير 1965.

هذا أفضل من مواجهة التصدعات الإضافية التي قد تنشأ عن تأجيل الانتخابات إلى أجل غير منظور. فذلك مما سيعد إعلانا مبكرا للهزيمة، وجبنا في مواجهة الناخبين.

المسألة أبعد من مجرد وجود قوائم فتحاوية تنافس بعضها بعضا في الانتخابات المزمعة. ذلك أن هذه الانقسامات تعني أن فتح لم تعد تعرف من هي أو ماذا تريد، ولا تعرف بالتالي ما هي وجهة المستقبل.

وما من حركة سياسية وجدت نفسها في هذا الموضع إلا وانتهت إلى هزيمة تاريخية، قد تمتد آثارها إلى أكثر من جيل.

ليس مطلوبا من أحد أن ينجح في كل شيء. وفي الظروف العصيبة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال فإن ارتكاب أخطاء، أو تبني سياسات فاشلة، قد يعبر عن مستوى من العجز عن قراءة الواقع، إلا أنه لا يجب أن يتحول إلى كارثة أو إلى مشروع للتدمير الذاتي.

أحد أهم أسباب الفشل هو أن الرئيس عباس فرض على فتح خيارات أثبت الواقع أنها ضارة، وعجزت عن تحقيق أي تقدم. وجانب كبير من ذلك يعود إلى أنه كان يخشى الرأي الآخر، ويخاف من النقد، ويتهرب من المسؤولية، ويعاند.

اجتماعات اللجنة المركزية لفتح تحولت إلى راديو لسماع خطابات الرئيس، وليس لمناقشة الخيارات والبدائل أو وضع استراتيجيات تُلائم بين واقع الحال وبين ما يمكن فعله.

دحلان والقدوة والبرغوثي قوى تغيير وإصلاح يحسن الإصغاء إليها. إنهم تيارات رؤى، حركة فتح لن تكون نفسها إن لم تستطع استيعابها والاستفادة منها. وهي تيارات تستقطب حشودا وأجيالا من الفلسطينيين الذين لا يمكن الاستغناء عنهم أو الترفع عن مطالبهم بالنسبة إلى أي حركة سياسية، وليس بالضرورة لأن هناك انتخابات. فما بالك إذا اجتمع الأمران معا؟

الحقيقة الملحة التي تملي على الرئيس عباس الاستقالة هي أنه لم يعد قادرا على إعادة احتواء هذه التيارات، ولا التعايش معها، ولا حتى التفاهم مع ممثليها. وفوق ذلك فإنه لا يحظى بدعم كل لجنته المركزية. ليس على وجه الحقيقة أبدا.

أبعد من هذا، فإنه ليس من ذلك النوع الذي يمكنه القبول بخيارات أو سياسات أخرى قد تفرضها متطلبات الإصلاح ومتغيرات الواقع وضغوط الاحتلال.

هذا يعني أنه هو الذي حشر نفسه في هذه الزاوية، ولم يُبق لنفسه متسعا يتعدى أن يبدأ التغيير والإصلاح به أولا.

الاستقالة ليست بالضرورة خاتمة المطاف. إنها أول المكانة في منقلبها الآخر. محمود عباس يظل هو محمود عباس في النهاية. لن ينكر عليه أحد شيئا، ولن يختفي له صوت بالضرورة.

التجديد مطلوب بحد ذاته في مواجهة الأزمات. لا يستطيع المرء أن يقود شعبه في نفق مغلق ويعاند على المضي فيه، أو يعجز عن التراجع. هذا انتحار جماعي.

لكي تحصل على مقاربات جديدة للخروج من أي أزمة فإنك بحاجة إلى قيادة جديدة. فذلك مما يبعث الحياة في مساعي البحث عن حلول، ويوفر أسلوبا مختلفا ولغة مختلفة في تناول التعقيدات، ويشجع الأطراف الأخرى على فتح الأبواب المغلقة.

ومثلما ضاق الإسرائيليون ذرعا بسلطة بنيامين نتنياهو، رغم أنه يجسد نزعاتهم اليمينية أفضل من غيره، يحق للفلسطينيين أن يضيقوا ذرعا بسلطة الرئيس عباس، على الأقل لأنه لم يعد قادرا على أن يشبه أحدا إلا نفسه.

التغيير بات واجبا. وخير للرئيس عباس أن يدركه بنفسه قبل أن يُفرض عليه.