د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

حديث الذكريات (31).. ذكريات العيد زمان !! (الحلقة الاولى)

يهل علينا العيد كل عام منذ سنوات ونحن نكتوي بنار الحروب والقلاقل والثورات التي لم تجلب لبلادنا غير الخيبات والانتكاسات والاخفاقات وتمر علينا الأعياد والمناسبات حتى أصبح الفرح والحزن لدينا سيان لا فرق بينهما لسوء الحال ومرارة العيش داخل الوطن ، وكلما أقبل علينا العيد نتذكر رائعة المتنبي التي صاغها عن العيد قبل أكثر من ألف عام التي مطلعها يقول :

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ

بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْديدُ

أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ

فَلَيتَ دونَكَ بِيدا دونَهَا بِيدُ

نعم لقد عبر المتنبي في هذه القصيدة عن أحزانه وخيباته وهو ذات المشهد الذي يعيد نفسه اليوم في بلادنا منذ أوائل القرن العشرين ، حروب متصلة سادت وفتن تجر أذيالها و كوارث وأزمات ، وضحاياها عشرات الألوف من القتلى ،ومئات الألوف من المشردين والجرحى ، حروب بلا عناوين ولا أهداف ، ونتذكر قول شاعر عربي آخر يبث أحزانه باكيا على عتبات داره ويقول : 

أقبلت يا عيد والأحزان أحزان

وفي ضمير القوافي ثار و بركان

أقبلت يا عيد وهذه أرض حسرتنا

تموج موج وأرض الأنس قيعان

وبالرغم من أن العيد مناسبة للتعبير عن الفرح إلا أنه يأتي عاما بعد عام حاملا أحزان الشعراء في كلماتهم التي تنتظم في قصائد ترثي الحال لا ندري إلى متى سيبقى هذا الامتداد الحزين ، وتعكس واقعنا الذي يقتل بهجة العيد ،ونظل نبحث عن جواب السؤال الذي يقول :

متى ستشرق شمس العيد الذي نتمناه و نتطلع اليه .. العيد الذي لا زلنا نبحث عنه منذ نصف قرن في زوايا أحزاننا وخيباتنا ؟؟!!

 ونحن لا نملك اليوم سوى مواساتنا لا نفسنا نستمدها من ذكرياتنا التي لا زالت تومض بلحظات قصيرة من ذكريات الفرح لا زالت حية في خلايا الذاكرة ومنها .

العيد في الصعيد أيام زمان :

تعود بي الذاكرة إلى عهد الصبا في مرابع الصعيد مدينتي الصغيرة الحالمة ذات الطبيعة الخلابة الخضراء لأستعيد بعض مظاهر العيد الصغير وما يصاحبها من مظاهر وعادات جميلة وبساطة وقبل العيد بثلاثة أيام يطوف خلالها المسحراتي منذ الصباح الباكر وحتى الظهر على بيوت الصعيد وينتقل من حي إلى آخر ومعه مجموعة من الصبية الصغار يسيرون خلفه وهم يرددون : باشعفل عيد عيدهم .. باشعفل من السالمين.. وهو يقرع طبله معهم وحتى اللحظة لا أعرف من هو باشعفل هذا ؟؟!!

كل ما أعرفه أن هذا المسحراتي يطوف على البيوت ليجمع من أهالي الصعيد ما تجود به نفوسهم من مال أو حبوب أو أرز لقاء عمله في ايقاظهم للسحور طوال الشهر ويتبعه عدد من الصبية يحملون أكياسا فارغة سرعان ما تمتلئ بالأرزاق وهم يرددون تلك الأنشودة على قرعات الطبل وكان نظرائهم من الصبية في الأحياء التي يمرون فيها يستقبلونهم بإشعال الطماش ترحيبا بهم .

مظاهر العيد :

يستعد جميع أفراد الأسرة للاحتفال بالعيد فالنساء يقمن بتزيين مداخل المنزل والدرج بالحاموره وهي نوع من الطلاء الأحمر ويقمن بتشكيلة في رسوم هندسية جميلة ، كما يستعد الآباء لشراء ملابس العيد لجميع أفراد الأسرة من الأقمشة الجميلة زاهية الألوان من دكان صالح أبوبكر بوعبد أشهر محل في الصعيد ويتم تفصيله على شكل " دروع " للنساء ويضعن شيلة أو مغرمة جورجيت ملونة يابانية على الرأس ، أما الرجال والأطفال تتباين ملابسهم من فوط هندية 80*80 إلى معاوز لحجية أو فوط سمرنده وغيرها تأتي من جاوه والهند بالإضافة إلى قمصان بيضاء أو هادئة الألوان وعمائم أبو نجمه الملونة أو سادة .

يوم العيد :

يتجه الناس صباح العيد الباكر على شكل مجموعات إلى وادي مربون في السيلة الحمراء الجميلة والنظيفة والواسعة والواقعة تحت بيت آل طالب بن سعيد ،ويتحلق الناس في دائرة ويحتبون وهم يرددون تكبيرات العيد بصوت واحد يتخلله أصوات الطماش الذي يشعله الأطفال تعبيرا عن فرحتهم بالعيد ثم تبدأ مظاهر العيد بقدوم مناصب البلاد آل بانافع وفي مقدمتهم العلامة الشيخ حسين آدم ويتبعه حشد من آل بانافع وهم ينشدون الأناشيد الدينية على قرع الطبول وعندما يصلون تقام صلاة العيد ثم خطبة العيد وبعد ذلك ينتظم الناس وقوفا في الدائرة يسلمون على بعضهم البعض وبعد الانتهاء من العواد يردد مجموعة من أهالي الصعيد بصوت واحد : ياحيل حيلوه بالسيل ..ويرد عليهم الحاضرون : بشركم الله بالخير ثم تنصرف الجموع إلى منازلهم في فرح وسعادة ، يعود الرجال والأطفال من الوادي ويدوي صوت الرصاص ويختلط مع الطماش في مهرجان من الفرح لا ينتهي ثم تجتمع كل أسرة في منزل الجد أو عميد العائلة حيث يجلس الرجال في " المحضرة " والنساء في غرفة أخرى وسرعان ما تصل جفان العيد واحدة بالبر والعسل والسليط والأخرى من الزاد الحامض والسليط والصعه الحامضة ، ويتحلق الرجال والصبية حولهما وبعد ذلك توزع فناجين البن والشاي حسب الرغبة وتغطى الجفان بأطباق جميلة زاهية الألوان لمن يتبارك منها من الزوار القادمين لاحقا ،وبعد تناول الطعام يقوم أفراد الأسرة يسلمون على بعضهم البعض ، وفي ذلك الوقت كان السلام أن يقبل صغار السن أيادي الكبار والنساء يقبلن أيدي الرجال ولم نكن نعرف العناق والقبلات في الخدود ويتم السلام بالمصافحة والمناصفة فقط ، ويصل بعض الأقارب والجيران والأصهار ويطلقون عيارا ناريا أمام المنزل كإشعار لأهل الدار بقدومهم وعند سماع أهل الدار بالعيار الناري ينزلون لاستقبال الزائر القادم ويسلمون عليه ويحملون سلاحه تكريما له ويصعدون به إلى المحضرة للسلام على كبار الأسرة ويتبادلون الأخبار ثم يقدمون له صحاف الطعام ويتبارك منها ولو بلقمة واحدة تقديرا لأهل الدار وتعبيرا عن الممالحة .

وإلى حلقة الغد .

د. علوي عمر بن فريد