د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
الأطماع الزيدية في الجنوب العربي !!
في هذا المقال لا نريد سرد الأحداث والوقائع التاريخية والأطماع التوسعية والحروب الدامية بين الممالك اليمنية القديمة التي كانت قائمة شمالا وجنوبا رغم أنني لا أؤمن بما يسمى باليمن الطبيعية أو بدولة مركزية شاملة لها ،وسأختصر مقالي على الأطماع التوسعية في عهد المملكة المتوكلية اليمنية وما جاء بعدها من ارتدادات في العصر الحديث !!
وتعود قضية الجنوب في صورتها الحديثة إلى ثلاثينات القرن الـ19 حين كانت مناطق الجنوب العربي عبارة عن مشيخات وسلطنات متناثرة ومتناحرة تفتقر إلى كيان واحد يجمعها، الأمر الذي سهل على بريطانيا احتلال أبرز مناطقها وهي مدينة عدن عام 1839، وفي عشرينات القرن العشرين ضم البريطانيون المشيخات المحيطة بعدن كإجراء احترازي لمنع الأئمة الزيديين في اليمن من اقتحام عدن، ثم أسسوا عام 1959 اتحاد إمارات الجنوب العربي الذي ضم 21 مشيخة وسلطنة !!
وقد ورد في مذكرات المعتمد البريطاني لمحمية عـدن (1930 – 1940) السير برناد رايللي أنه في عام 1920 اجتاح الغزو الزيدي أراضي إمارة الضالع الأميرية التي تبعد 90 ميلا عن محمية عـدن والتي تربطها بحكومة عـدن معاهدة حماية وصداقة من أيّ اعتداء خارجي. وفي عام 1923 واصل الغزو الزيدي اجتياحه لمناطق محميات عـدن الغربية واستولى على سلطنة البيضاء وأيضا على مكيراس في الجزء العلوي من سلطنة العوذلي في عام 1924، كما استولت المتوكلية اليمنيّة أيضا على منطقة العوذلي السفلي “لودر” عام 1926 وهناك قامت بريطانيا بقصفهم جوا وأرسلت لهم المزيد من القوات الجويّة البريطانية في إمارة الضالع وملحقاتها!!
ومع ذلك، استمرت سيطرة الزيود على سلطنة البيضاء التي لم يبرم سلطانها أيّ معاهدة مع بريطانيا رغم أن إقليمه يمتد على الجانب البريطاني من حدود الأنجلو- التركية المعينة في عام 1914 باتفاقية الحدود الدّولية ومع استمرار الاعتداءات الزيدية الشيعية لمحميات عدن الغربية الشافعية خاصة بعد الاستيلاء على الضالع والبيضاء ومكيراس ولودر في الفترة بين 1920 و1926 قامت الحكومة البريطانية عام 1926 بالمزيد من المحاولات- قبل اتخاذ أي قرار عسكري- للتوصل مع الإمام إلى اتفاق، وهذا عندما تم إرسال ضابط الاستخبارات البريطاني جيلبرت كلايتون إلى صنعاء في محاولة منه إبرام معاهدة مع الإمام، لكن جميع مفاوضاته فشلت تماما، وقبله تم إرسال المسؤول الأوّل الكولونيل هارولد فيتنون جاكوب، أوّل مساعد مقيم في عدن، للتفاوض مع الإمام بعد جلاء الأتراك عن اليمن !!
يشير المعتمد البريطاني في مذكراته إلى أن المفاوضات فشلت بسبب ادعاء الإمام بأنه يملك كل شبر في الجنوب العربي للجزيرة العربية، بما في ذلك الجزء الأكبر من محمية عدن، بل وعدن نفسها، معتمدا في ذلك على أن الأئمة الزيديين حكموا البلاد كلها منذ حوالي 1630 إلى حوالي عام 1730، وهو إدعاء لم تعترف به قبائل محمية عـدن بمن في ذلك حكامها المحليون الذين اعتبروا مطالبات الإمام مبالغا فيها، وأن الإمامة اليمنية لم تحكم مناطق الجنوب عبر التاريخ، بل جاءتها غازيةّ!!
وبعد أن وصلت الحكومة البريطانية إلى طريق مسدود مع الإمام الزيدي لسحب قواته من المناطق التي غزاها في محميات عدن الغربية، أجهز سلاح القوات الجوية الملكية البريطانية في إمارة الضّالع عام 1928 على جيش الإمام الذي انهار وتقهقر وتراجع أمام ضربات الطيران البريطاني وتقدم قوات أمير الضالع من اتجاه ردفان وحالمين، ورغم تحرير الضالع ولودر ومكيراس من قبضة الدولة المتوكلية اليمنية إِلا أن سلطنة البيضاء، الممتدة على الجانب البريطاني من الحدود الأنجلو- تركية المعينة في عام 1914، لم تُحرر، وسلطنة البيضاء لم تبرم أبدا عنها الحكومة البريطانية أي معاهدة لتحريرها وكفالة حمايتها؛ لهذا ظلت تحت الحكم الزيدي رغم وقوعها في إطار محميات عدن الغربية .
الخلاف اذن ليس جديدا ونزعة الاستقلال عند الجنوبيين ضاربة في القدم، والشخصية الجنوبية لها خصوصياتها التي لا يمكن القفز فوقها، كالشخصية اللبنانية بالنسبة لسوريا، أو الشخصية الكويتية بالنسبة للعراق، أو الشخصية السودانية بالنسبة لمصر، فالجوار الجغرافي أو وحدة التاريخ في بعض جوانبه، لا يعنيان وحدة المزاج الشعبي الذي تتشكّل منه بنية الانتماء الوطني. هناك خصائص ثقافية واجتماعية عادة ما تكون وراء تشكيل منتج سياسي لا يمكن استيعابه بالوحدة الاندماجية الكاملة كالتي تم ارتجالها بسرعة قياسية عام 1990 في نظر حكام اليمن إلى الجنوب على أنه غنيمة حرب وعودة فرع الى الأصل ، فتم استغلال خيراته وتشريد كفاءاته وتهديد سلمه الأهلي وتدمير خصوصياته الدينية والثقافية والاجتماعية وموقعه الجغرافي الفريد وانفتاحه على العالم وتجارب الشعوب الأخرى. كما تم استهداف عدد من رموزه الوطنية بالاغتيال أو الاعتقال أو الدفع نحو الفرار إلى الخارج كما سجلت انتهاكات جسيمة شملت ممارسات سياسة التمييز والتفرقة العنصرية، وإحالة مئات الآلاف من الموظفين الجنوبيين في قطاعات الأمن والجيش والقطاع المدني والمؤسسات إلى التقاعد القسري، ونهب وتدمير تلك المؤسسات التي كانت تزخر بها دولة اليمن الجنوبي، وارتكبت جرائم حرب ترتقي في بعض الحالات إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ، ويقول الحبيب الأسود الصحفي التونسي :
" في 27 أبريل 1994 أعلن الرئيس اليمني علي عبدالله صالح حرب الشمال على الجنوب من ميدان السبعين، ليتلقف رجال الدين الزيود الطائفيون تلك الدعوة ويحولوها إلى واجب ديني ومذهبي، وليتم اجتياح الجنوب في تحدّ سافر لقراري مجلس الأمن رقم 924 و931 لعام 1994 ولموقف مجلس التعاون الخليجي الذي أعلن في الدورة الـ51 لمجلسه الوزاري بمدينة أبها في يومي 4 و5 يونيو 1994، أن “الوحدة اليمنية لا يمكن أن تستمر إلا بتراضي الطرفين، ولا يمكن للطرفين التعامل في هذا الإطار، إلا بالطرق والوسائل السلمية. وتقديرا من المجلس لدوافع المخلصين من أبناء اليمن في الوحدة فإنه يؤكد أنه لا يمكن إطلاقا فرض هذه الوحدة بالوسائل العسكرية رغما عنها وتحويلها
من دولة مستقلة إلى دولة خاضعة للاحتلال القسري"
وقد واجه الجنوب العربي مصيره، دون أن يتخلى عن كفاحه السلمي وحراكه الشعبي الذي أثمر مؤخرا الإعلان عن بسط مجلسه الانتقالي نفوذه على مؤسساته السيادية، بعد يأس من إمكانية الإصلاح، وبعد أن أدرك أن الحرية لا يمكن أن تكون إلا بالاستقلال التام عن شركاء الأمس ممن يعتمدون الخطاب العنصري والمذهبي والطائفي، ويستعينون بإيران لإخضاع اليمن للفرس وشن الحروب الغاشمة على دول الجوار العربي ، ويجيّرون الإرهاب والتطرف والفكر الظلامي لخدمة مشروعهم السلالي العنصري الذي لا يرى في الجنوب العربي إلا غنيمة حرب وجغرافيا للتمدد والتوسع والهيمنة ، دون الأخذ في الاعتبار الفوارق المذهبية و الثقافية والحضارية بين اليمن والجنوب العربي .
د . علوي عمر بن فريد