محمد أبوالفضل يكتب:
عودة أميركية لإدارة المفاوضات كعملية سياسية
وجدت الولايات المتحدة في نتائج المواجهة العسكرية بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية فرصة جيدة للعودة إلى إدارة عملية السلام التي تجمدت السنوات الماضية بعد اندلاع صراعات ونزاعات وتوترات إقليمية عدة، وتيقنت أن حضورها المباشر وإدارتها لمشروع التسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين كعملية سياسية قادر على كبح الخيارات البديلة، ويمكنه تقويض دور القوى المنافسة في المنطقة.
حرص رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين على إدارة الصراع العربي- الإسرائيلي أكثر من حرصهم على إيجاد تسوية نهائية له، وتمكن غالبيتهم من وضع الكثير من الأوراق في أياديهم، وضبطوا جوانب مهمة من الأوضاع بالصورة التي تمنع اندلاع حرب كبيرة في المنطقة لا يستطيعون السيطرة عليها.
ظهر الخلل في هذه المعادلة خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث أراد القفز على مبدأ إدارة العملية السياسية الذي كرّسه سابقوه وقدم حلا مبتسرا عبر “صفقة القرن” تصور أنه سيكون مخرجا حاسما للصراع، وخلت إدارة الصفقة من الحنكة وكأنها طبخة غير طازجة يراد من الفلسطينيين والعرب تجرعها بكل مرارتها.
أدركت واشنطن الآن أن التخلي عن التعاطي مع الصراع كعملية سياسية حوّل الإدارة الأميركية إلى رقم هامشي، تضر تبعاته بمصالح إسرائيل، ويمنح تفوقا لمحور المقاومة الذي تقوده إيران بالتعاون مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، ما أضر بالمحور المعتدل بقيادة مصر ومعها السلطة الفلسطينية.
فتح توقف عملية السلام، إدارة ومعنى وفحوى، الطريق أمام المناورة بالحل العسكري والتلويح به من وقت إلى آخر، وأدى فقدان البوصلة الأميركية إلى خروج واشنطن تدريجيا من المشهد الإقليمي، إلى أن وقعت حرب غزة الأخيرة ومعها استشعر الرئيس جو بايدن حجم الخسائر الفادحة لغياب الأفق السياسي وأن استمرار ذلك يقود إلى تغيير كبير في التوازنات، ومن الضروري العودة إلى العملية السياسية.
وفرت الإدارة الأميركية أجواء مواتية أمام القاهرة للجم الحرب، ونجحت في وقف إطلاق النار، وبدأت مرحلة جديدة من التفاهمات بين الطرفين قاعدتها الرئيسية عودة عملية السلام إلى مسارها الصحيح، والعمل على توفير المساعدات الدولية اللازمة لإعادة إعمار غزة، وتمكين السلطة الفلسطينية من ممارسة دورها السياسي.
على أرض الواقع من الصعوبة تحقيق الأمنيات الأميركية التي تدغدغ مشاعر البعض من الفلسطينيين والعرب بشأن حل الدولتين، فلا إسرائيل ستوافق على تطبيق الفكرة بعد أن استحوذت على جزء كبير من الأراضي المحتلة وأقامت مستوطنات عديدة، وتضخمت أدوار المتطرفين، ولا حماس كقوة كبيرة مهيمنة على القطاع سوف تقبل الدخول في مفاوضات حول حل لا يلبّي طموحاتها.
تريد الولايات المتحدة العودة إلى تدشين محادثات بين إسرائيل والفلسطينيين والإيحاء أن هناك حركة في المنطقة واهتماما ظاهرا بالقضية الفلسطينية بعد أن تصدرت الواجهة الإقليمية، واستردت قدرا من عافيتها، بصرف النظر عن النتيجة التي يمكن أن تصل إليها أيّ مفاوضات، فالمهم أن يتولد شعور بوجود عملية سياسية مستمرة.
جربت واشنطن هذا الاتجاه على مدار نحو عقدين، فبعد التوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993، دخلت المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين محطات مختلفة، جميعها لم تسفر عن تقدم ملموس، لكن كان التعلق بالأمل يوقف استمرار التصعيد، وبعد توقف المفاوضات تعثرت العملية السياسية ذاتها وأخذت جدران السلطة الوطنية تتآكل.
لعب التقاعس الأميركي والتراخي الدولي والمراوغة الإسرائيلية دورا محوريا في هذه النتيجة التي ازدادت قتامة مع اتساع الهوة في المواقف العربية، وغلبة الانشغالات الداخلية على القومية، حتى استيقظت واشنطن أمام مشهد يعيد الصراع إلى صورته الصراعية المحتدمة، ويعلو ضجيج السلاح على صخب المحادثات، ما يعني خسارة نحو أربعة عقود بذلت خلالها الولايات المتحدة جهودا مضنية لتغيير شكل الصراع.
دقت حرب غزة الأخيرة جرس الإنذار لتنتبه الإدارة الأميركية إلى مكامن الخطر في غياب العملية السياسية، وخسارتها لإدارتها، وبدأت تظهر تحركات من فرنسا وألمانيا بالتعاون مع مصر والأردن لإطلاق مفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، ما يؤثّر على مركزية دور واشنطن في مسار امتلكت في بعض الأوقات كل أوراقه المؤثرة.
قد تضخ العودة الأميركية للانخراط في القضية الفلسطينية دماء في شرايين المفاوضات، لكنها غير مضمونة أن تقود إلى حل منتج لها، لأن العودة لم يتم التمهيد لها وتبدو ولادتها صعبة، وخرجت من رحم أحداث غزة ودروسها وأهمها أن المقاومة الفلسطينية نجحت في تطوير آلتها العسكرية بطريقة تمثل إزعاجا لإسرائيل.
إذا مضت عملية التطوير في طريقها بضع سنوات أخرى يمكن أن تمثل هاجسا أكبر لإسرائيل، ففي ظل الانهيار الذي لحق بمشروع التسوية الذي تبنّته السلطة الفلسطينية والإحباط الذي أصاب مؤيديه بفعل التعنت الإسرائيلي استرد المشروع المقابل (المقاومة) زخمه، واستطاع أن يجذب انتباه فئات كانت من مؤيدي المشروع الأول.
يفسّر هذا التغير أحد أسرار الليونة التي بدت عليها إسرائيل في التجاوب مع وقف إطلاق النار دون شروط، ويفسر أيضا أسباب تأييد واشنطن لتحركات القاهرة الرامية لإعادة المفاوضات، ويمكن أيضا فهم مرونة حماس في سياق ما لحق من تغيرات في مواقف بعض حلفائها.
ربما تكون الأهداف النهائية لدى كل طرف مختلفة، غير أنها تصب في اتجاه فتح المجال أمام التسوية وتمكين الولايات المتحدة من إداراتها كعملية سياسية، وهي الصيغة التي تحقق من ورائها كل الأطراف جانبا من أغراضها المرحلية.
يمكن لإسرائيل أن تلتقط أنفاسها لتتهيأ للتعامل مع الفترة المقبلة الملتبسة، وواشنطن قد تستطيع استعادة لياقتها وتفاعلها مع القضية الفلسطينية بعد أن تأكدت من خطورة تجاهلها سياسيا، ومصر تسترد عافيتها الإقليمية، وحماس والسلطة الوطنية تتمكنان من إعادة التموضع بما يتماشى مع المستجدات وتعقيداتها.
لن تفضي هذه النوعية من الحسابات إلى تحريك قطار المفاوضات للأمام خطوة واحدة، لأن إدارة العملية السياسية دون أمل حقيقي سيكون كفيلا بعودتها للجمود مرة أخرى، خاصة أن خبرة التعامل الفلسطيني مع إسرائيل وبرعاية الولايات المتحدة أتاحت خبرة تقلل من جدوى المفاوضات لأجل المفاوضات.
من هنا يأتي التباين بين إدارة العملية السياسية في أوقات سابقة وبين إدارتها حاليا، بما يفرض على واشنطن أن تقدم شيئا ملموسا للفلسطينيين الذين يشعرون اليوم، على الرغم من تعاظم المعاناة، أنهم قادرون على إرباك إسرائيل، حيث اكتسبت قضيتهم تعاطفا دوليا يمكن أن يضع إدارة العملية السياسية من جانب واشنطن تحت المجهر.