محمد أبوالفضل يكتب:
إثيوبيا الحبيسة تدخل سباق القواعد العسكرية في البحر الأحمر
عندما أعلن دينا مفتي المتحدث بإسم الخارجية الإثيوبية الأربعاء الماضي عزم بلاده إنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، قللت بعض الدوائر السياسية في مصر من ذلك واعتبرتها نوعا من الاستهلاك المحلي ودغدغة لمشاعر مواطنيه، لأن إثيوبيا دولة حبيسة بعد انفصال إريتريا عنها.
تناسى هؤلاء أن جنوب البحر الأحمر يحفل بقواعد عسكرية تابعة لقوى إقليمية ودولية مختلفة، وأصبحت بعض الدول الأفريقية تجني ثمارا مادية سخية من تأجير أراضيها، وليس شرطا للحصول على قاعدة أن تكون الدولة مطلة مباشرة على البحر الأحمر أو المحيط الهندي القريب منه، فهناك دول عديدة من خارج المنطقة لها قواعد مهمة في جيبوتي وإريتريا فضلا عن الصومال.
يبدو حديث مفتي ردا على تكثيف مصر تعاونها العسكري مع عدد من الدول المحيطة بإثيوبيا مؤخرا، مثل جيبوتي وكينيا وأوغندا والسودان وبوروندي، وأن أديس أبابا مصممة على دخول التحدي مع القاهرة إلى أبعد مدى في إشارة توحي بعدم تليين موقفها في أزمة سد النهضة وعدم رضوخها لأي ضغوط عسكرية، وأن مشاكلها الداخلية لن تحول دون تمددها إقليميا أو تطوير مشروعاتها التنموية.
حلم القاعدة البحرية
من اللافت أن تصريح المتحدث بإسم الخارجية جاء عقب يوم من تصريح آخر لرئيس الوزراء آبي أحمد أكد فيه عزم بلاده بناء مئة سد في إثيوبيا، وبصرف النظر عن القدرة والإمكانيات الحقيقية التي تدعم بناء القاعدة البحرية أو مشروعات السدود الجديدة، ففي النهاية هناك رغبة إثيوبية للمضي في تعزيز التمدد داخل منطقة القرن الأفريقي، وإعادة صياغة جغرافيتها السياسية.
لم يكن مفتي أول من أشار إلى مسألة القاعدة البحرية، فقد جاء ذكرها من قبل على لسان آبي أحمد نفسه في أحد اجتماعاته مع قادة الجيش بعد توليه السلطة، وهو ما فسره نائب رئيس أركان القوات المسلحة برهانو جولا في نوفمبر 2018 بقوله “نحن نتشاور مع الدول الأخرى في ما يتعلق بإعادة النظام البحري وقدراته وبنيته، والدول التي اكتسبت ممتلكاتها حول البحر الأحمر والمحيط الهندي توفر قواعد بحرية لدول أخرى، لذلك تم اتخاذ قرار إستراتيجي بأن تقوم إثيوبيا بتطوير قوة بحرية في الجوار”.
صمتت أديس أبابا عن هذا الملف، ربما لم ترد استثارة غضب البعض، وربما كانت تريد تجهيز الأرض تحت أقدامها جيدا، أو كانت تريد الاستفادة من تعويم آبي أحمد كقائد معتدل في المنطقة بعد حصوله على جائزة نوبل للسلام، وفي كل الأحوال توارى مشروع القاعدة البحرية في الخلفية من دون إلغائه.
تؤكد الإشارات الجديدة القادمة من إثيوبيا أن فكرة القاعدة البحرية لا علاقة لها بالتحركات المصرية العسكرية في المنطقة، ولا علاقة لها بنوايا السودان حول إعادة ترتيب أوضاعه البحرية مع قوى دولية متباينة، فالتوجه الإثيوبي سابق لتصاعد حدة الأزمة في ملف سد النهضة أو التلويح باستخدام خيارات خشنة لوضع حد لها أو احتدام الصراع على القواعد البحرية في السودان بين روسيا والولايات المتحدة.
ويأتي ضمن مشروع كبير يتبناه آبي أحمد يسعى إلى تثبيت دور إثيوبيا القوي في المنطقة وإعادة جانب من الشكل الإمبراطوري تحت قيادته، فقد ذكر ذات مرة أن أمه تنبأت له بأنه منذ أن كان في عمر السبع سنوات سيكون الملك السابع لإثيوبيا، وعاش، ولا يزال، مفتونا بهذه النبوءة ويعمل على تطبيقها.
قد تفسر هذه النبوءة الغيبية التي رواها آبي بنفسه جانبا من أحلامه للدولة الإثيوبية، وتبرر إصراره على عدم التحلي بالمرونة الكافية في مفاوضات سد النهضة وثقته العالية في تجاوز الصعاب، ودعم فكرة بناء دولة قوية.
تأسست البحرية الإثيوبية عام 1955، وكانت هناك قواعد تابعة لها في ميناء مصوع وجزر دهلك في البحر الأحمر قبل انفصال إريتريا عام 1993، وتسعى الآن أديس أبابا إلى الاستفادة من علاقتها الوطيدة بأسمرة في إعادة إحياء الأسطول البحري وتطوير العلاقة مع الحليفة إريتريا بعد أن باتت قواتها طرفا رئيسيا في الحرب التي تخوضها الحكومة الإثيوبية في إقليم تيغراي.
أداة للردع العسكري
يضاعف حديث القواعد البحرية من معالم التوتر بين إثيوبيا من ناحية، ومصر والسودان من ناحية أخرى، ويشير إلى أن كل طرف يحاول توظيف ما لديه من قدرات عسكرية لردع وتحجيم الطرف الآخر، فالمناورات التي أجرتها مؤخرا قوات عسكرية مصرية وسودانية في طبعتيها “نسور النيل” ثم “حماة النيل” اعتبرتها إثيوبيا موجهة إليها، وأنها دليل على عدم استبعاد اللجوء إلى الحل العسكري.
تريد أديس أبابا التظاهر بأنها ليست لقمة سائغة في فم مصر والسودان، فإذا كانت القاهرة نجحت في توصيل رسائل بأن علاقتها بالعواصم المحيطة بإثيوبيا جيدة من خلال تنوع التعاون الأمني معها، فأديس أبابا تؤكد أيضا أنها غير معزولة وقادرة على أن تذهب إلى مدى أبعد من مصر التي وقعت اتفاقيات عسكرية مع دول مختلفة لا ترقى إلى مستوى الحصول على قواعد بحرية حتى الآن.
تحتفظ إثيوبيا بعلاقات جيدة مع كل من الصومال وجيبوتي وإريتريا، ويمكنها الحصول على تسهيلات عسكرية في موانئ الدول الثلاث تنهي بها عملية الحصار البحري والخروج من إطار التحول من دولة حبيسة إلى منفتحة على البحر الأحمر، وربما المحيط الهندي، وقادرة على استعادة زخم أسطولها البحري السابق.
ينطوي تلويح إثيوبيا ببناء قاعدة بحرية على قدرتها في تشكيل تحالفات متينة داخل المنطقة، وأن أزماتها الداخلية لن تفرض عليها عزلة أو تمنعها من تطوير علاقاتها الإقليمية، وطموحاتها المستقبلية لن تقف عند حدود بناء سد النهضة الذي أكدت تداعياته حاجتها لقوة عسكرية كبيرة تحميه، وتحمي حدود إثيوبيا بعد تفجر الحرب في إقليم الفشقة السوداني وزيادة المخاوف من تحول تيغراي إلى جرح مستمر.
يحتاج بناء القاعدة البحرية الإثيوبية المنتظرة في ميناء عصب أو مصوع الإريتريّين لوقت كي تظهر نواته العملية، لكن في ظل العلاقة الوثيقة التي تربط بين آبي أحمد في أديس أبابا وأسياس أفورقي في أسمرة يمكن أن تقدم إريتريا التسهيلات المطلوبة حاليا كرسالة ردع معنوية للقوات البحرية المصرية إذا فكرت في الاعتداء على سد النهضة فمن الممكن مضايقتها من هناك، وسط الفتور الذي يعتري العلاقة بين القاهرة وأسمرة واحياز الأخيرة لإثيوبيا.
تحمل هذه التطورات علامة على أن المنطقة على وشك أن تدخل مرحلة متقدمة من الفوضى، وهو ما جعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يشددان على استبعاد الحل العسكري للأزمة وينشدان العودة لطاولة المفاوضات، والتي لا تمانع الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، في الجلوس حولها دون اللجوء إلى المعادلة الصفرية الشهيرة التي تعني أن مكاسب طرف خسائر للطرف الآخر.
إذا عادت الدول الثلاث إلى المفاوضات يجب أن تعقد وفقا لشروط وضوابط تضمن التوصل إلى اتفاق ملزم لملء وتشغيل السد، وهو ما تشير إليه بعض التحركات الإقليمية والدولية برعاية الولايات المتحدة، حيث بدأ مبعوثها للقرن الأفريقي جيفري فيتلمان جولة تشمل قطر والإمارات والسعودية وكينيا، وهو ما يتعزز بإعلان إثيوبيا قبل أيام أنها لن تستطيع الوصول للارتفاع الذي يخولها لإتمام الملء الثاني كاملا لأسباب فنية، ويكبح الخيار العسكري وتبدأ جولة جديدة من المناكفات.