د. صبحي غندور يكتب:
ثنائيّات متأزّمة في الواقع العربي الرّاهن
يرتاح عامّة الناس إلى تبسيط التصنيفات والخيارات في الأمور كلّها، حتّى في القضايا الدينية. لذلك نرى الآن ازدهارًا كبيرًا لظاهرة "الفتاوى" والركون إلى ما يقوله "المفتون" بدلًا من تشغيل العقل في فهم النصوص. أيضًا، تستسهل المؤسّسات الإعلامية المختلفة تصنيف الجماعات والتيّارات السياسية في أحد اتجاهين: مع وضد. لذلك نشهد حاليًّا توزيع المواقف السياسية بين إمّا داعمٍ لحكم أو مؤيّدٍ لمعارضة، رغم ما في ذلك التوزيع من إجحاف لمواقف البعض المنتقدة في هذا البلد أو ذاك للحكم وللمعارضة معًا.
هي سياسةٌ اتّبعها أيضًا الكثير من الحكّام وقادة الدول الكبرى تجاه حكوماتٍ رفضت نهج التبعية لمعسكرٍ ضدّ آخر. فهكذا كان الحال خلال فترة الحرب الباردة حيث تعرّضت مجموعة دول "عدم الانحياز"، التي أسّسها في منتصف خمسينات القرن الماضي عبد الناصر ونهرو وتيتو، إلى محاربةٍ من طرفيْ الحرب الباردة. وهكذا أيضًا مارست إدارة جورج بوش الإبن خلال حربها على العراق سياسة: "من ليس معنا فهو ضدّنا"، وحينما قسّمت العالم بين "قوى الخير وقوى الشر" تحت حجّة "محاربة الإرهاب"، ولم يكن مقبولًا الاعتراض حتّى من بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة.
وكان العالم كلّه، وما زال بعضه إلى الآن، يستحسن تقسيم الأحزاب والتيّارات السياسية إلى "يمينٍ ويسار"، كما كانت أيضًا تسميات "رجعي وتقدّمي" سائدةً في عقودٍ عديدة من القرن الماضي. وهذه التصنيفات ارتبطت سابقًا بأبعادٍ اجتماعية واقتصادية، وكانت انعكاسًا للصراع الذي دار في القرن العشرين بين التيّارين الشيوعي والرأسمالي، والذي لم يكن مقبولًا فيه التمايز عن أحد التيّارين. فالإشتراكية الوطنية كانت تُحسب على الشيوعية حتّى إنِ اختلفت عنها تمامًا، كما حدث في تجارب عديدة خارج الفلك الشيوعي، ومن ضمنها تجربة جمال عبد الناصر الإشتراكية.
طبعاً، النشأة التاريخية لتعبير "اليمين واليسار" ارتبطت بما كان يحدث أيام الملك الفرنسي لويس السادس عشر حيث كان المؤيّدون لسياساته يجلسون إلى يمينه، بينما يجلس المعترضون إلى يساره.
ونجد بعض الإعلام العربي يوزّع الحركات السياسية العربية إلى مجموعتين" "إسلامي" أو "ليبرالي" دون إدراكٍ أنّ هذه التسميات لا تُعبّر فعلًا عن واقع وعقائد كل الحركات والتيّارات الفكرية العربية. ولا يجوز أصلًا اعتماد تسمياتٍ تجعل من الآخر في موقع الضدّ لها. فهل غير المنتمي لحركةٍ سياسيةٍ تحمل صفةً دينية يعني أنّه غير مؤمن أو مسلم أو على تناقضٍ مع الدين نفسه؟! وهل من هو منتمٍ لتيّارٍ سياسي ديني يعني أنّه رافضٌ للحرّيات وللمجتمعات المدنية التي يدعو لها الفكر "الليبرالي"؟!
إنّ قضايا التحرّر والهُويّة القومية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاحتلال ومحاربة الظلم أينما كان وكيفما كان، هي كلّها قضايا إنسانية عامّة لا ترتبط بمنهجٍ فكريٍّ محدّد. فلا الدين يتعارض مع هذه القضايا ولا الابتعاد عنه يعني تخلّيًّا عنها. وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل هذه القضايا لكن اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين في الحياة.
فالاحتلال الإسرائيلي مثلًا لم ولا يميّز بين التيّارين الديني والعلماني في الأراضي المحتلّة، إذ المستهدَف هو الفلسطيني إن كان من هذا الدين أو ذاك، أو إن كان "علمانيًّا" أو "إسلاميًّا". الأمر نفسه ينطبق على القضايا الاجتماعية في أي بلدٍ من العالم، حيث لا دين أو لون فكريًّا للفقر أو للظلم الاجتماعي.
ومن الأمور، المهمّ التوقف عندها أيضًا، هو حال التخبّط أحيانًا في استخدام المفاهيم والمصطلحات، عِلمًا أنْ ليس هناك نموذج تطبيقي واحد لأيٍّ من المصطلحات المستخدمة ("الديني" و"العلماني"). ففي الدائرة الغربية الديمقراطية نجد اختلافًا في المفهوم وفي التطبيق بين بعض تجارب العلمانية الأوروبية وبين التجربة العلمانية الأميركية، فكيف بتجارب الصراعات على الحكم باسم الدين الإسلامي على مدار أكثر من 14 قرنًا؟!.
إنّ الاختلاف الفكري بين الناس هو ظاهرة صحّية حينما تحصل في مجتمعات تصون التعدّدية الفكرية والسياسية وتسمح بالتداول السلمي للسلطة وباحترام وجود ودور "الرأي الآخر". وهي مواصفات وشروط لمجتمعات تعتمد الحياة السياسية الديمقراطية، وتكون مرجعيتها هي القوانين والدساتير المجمَع على الالتزام بها بين كلّ الأطراف. فلا ينقلب طرف على الآخرين وحقوقهم أو على الدستور ذاته بمجرّد الوصول إلى الحكم!.
بعض الأوطان العربية يعاني الآن من ثنائية تحدّيات تجمع بين خطر التدخّل الخارجي وخطر الصراعات الداخلية، بل مخاطر الحرب الأهلية. فهي هنا ثنائية مشكلة دور الخارج وانقسامات الداخل، بينما أوطانٌ عربية أخرى تمرّ في ظروف سياسية تبرز فيها أعطاب الحكم والمعارضة معًا. فلا النّاس راضون عن الحاكم ولا هم مقتنعون أيضًا بالمعارضة البديلة. فهذه الأوطان تعيش ثنائية مشكلة الحكم والمعارضة معًا.
حتّى في البلاد التي لا تعاني من ثنائية تحدّيات الخارج وانقسامات الداخل، أو من ثنائية أزمة الحكم والمعارضة، نجد الاختلال في ثنائية عدم توفّر العدل السياسي والعدل الاجتماعي معًا.
أيضًا، نلمس الآن ثنائية أزمة الهويتين الدينية والثقافية في المجتمعات العربية، حيث أصبحت الهوية الدينية والهوية الإثنية وكأنّهما نقيض للهوية القومية العربية وفي مواجهتها، بل أضحت الأولوية الآن للانتماءات الطائفية والمذهبية، وعلى حساب الانتماء إلى الدين الواحد والقيَم المشتركة بين كلّ الأديان.
للأسف، هذه الثنائيات في الواقع العربي الراهن يُلازمها مرض عربي مزدوج أيضًا يقوم على آحادية التفكير من جهة، وعلى ازدواجية المعايير من جهة أخرى، وهو مرض ليس وليد الحاضر أو الماضي القريب فقط، بل هو محصّلة لتراكم كمّي في الأوضاع السياسية على امتداد قرونٍ زمنية طويلة، نحصد نتائجه حينما تشتدّ تحدّيات الخارج إذ تظهر عندها بصورةٍ جليّةٍ أكثر مساوئ وأعطاب الداخل في مواجهة هذه التحدّيات.
ولعلّ أخطر التوصيفات للحروب والصراعات يحدث حينما يحصل استغلال أسماء دينية ومذهبية لوصف حروب ونزاعات هي بواقعها وأهدافها سياسية محض، وهذا ما يجري عادةً في الحروب الأهلية التي تُسخّر فيها كل الأسلحة بما فيها سلاح الطائفية السياسية. فالفاعل الآن في الأزمات العربية هو مجموعة من الجهات الإقليمية والدولية التي قد تتباين مصالحها، لكنّها تتّفق على هدف جعل الأزمات العربية تأخذ أبعادًا طائفية ومذهبية وإثنية.
إنّ المنطقة العربية مهدّدةٌ الآن بثنائية مشروعين يخدمان بعضهما البعض: مشروع التدويل الغربي لأزمات عربية داخلية، ومشروع التقسيم الصهيوني لأوطان وشعوب المنطقة. وما تقوم به جماعات التطرّف الديني العنفي يساهم بتحقيق المشروعين معًا في ظلّ غياب المشاريع الوطنية العربية التوحيدية.
إنّ واقع الحال العربي الآن لا يحمل رؤية عربية مشتركة فاعلة لمستقبل أفضل، ولا يقوم على مرجعيات فكرية وسياسية سليمة في معظم الأحيان والحالات، لكن المدخل الصحيح لمعالجة هذا الواقع هو توفّر الفكر السليم الذي يقود ويحرّك طاقات القائمين به. فالأمّة العربية تحتاج الآن إلى رؤية فكرية مشتركة تحسم الخلل والتناقض المفتعل بين هُويّات مختلفة لأوطانها ولشعوبها، بحيث يتعزّز معًا، وفي وقتٍ واحد، الإيمان الديني الرافض للتعصّب والفتنة، ثمّ الولاء الوطني على حساب الانتماءات الضيّقة الأخرى، كما هي الحاجة أيضًا لتأكيد الهُويّة العربية في مجالات التعبير المختلفة عنها داخل المجتمعات وبين الحكومات.
الأمّة العربية تحتاج إلى مشروع فكري نهضوي متكامل يقوم على التلازم والترابط بين أهداف الديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة والعدل الاجتماعي. وبتوفّر هذا المشروع، والمؤسسات والأفراد العاملين من أجله، يمكن بناء مستقبل أفضل للأوطان وللشعوب معًا، وبه أيضًا يُصلَح الخلل في مواجهة ثنائية التحدّيات الداخلية والخارجية.