صالح القلاب يكتب:

عالم اليوم غير عالم الأمس... وهذا القرن غير القرن الماضي

ما كان كثيرون من الذين تابعوا التحولات التونسية، بعد غروب شمس المرحلة البورقيبية التي كانت قد تمادت وتواصلت لسنوات طويلة، يتوقعون أن يحدث هذا الذي حدث وأن يبرز الأستاذ الجامعي قيس سعيَد كقائد كبير بالفعل قلب الأوضاع في تونس الخضراء رأساً على عقب وأن يطيح نظاماً كان رموزه وقادته يعتقدون أنهم سينعشون حركة هي الحركة الإخوانية التي كانت متهالكة وباتت تابعة لإيران الخامنئية.
كان نظام ما قبل أن يقوم الرئيس قيس سعيَد بما قام به ويضع تونس على بداية طريق غير الطريق «الإخواني» السابق، يعتقد أنّ هوية هذا البلد الذي كان الحبيب بورقيبة قد وضعه على طريق بعيدة كل البعد عن الطريق «الإخوانية» لا يمكن تغييرها وأنّ هذا الرئيس التونسي لن يكون إلاّ مجرد «واجهة» سياسية غير فاعلة وأن نظام ما قبل هذه الحركة التصحيحية لا يمكن استبداله وإنّ من بدأ «ناصرياً» وأصبح اشتراكياً ثم غدا ذا توجه إخواني من غير الممكن إزاحته بعدما أصبحت سيطرته كاملة على بلد لم يعد «بورقيبياً» ولا علمانياً لا من بعيد ولا من قريب!
لقد اعتقد هذا الذي بدأ «ناصرياً» ثم أصبح اشتراكياً ثم «إخوانياً» أنه «سيستعيد» ما يعده أمجاد «الإخوان المسلمين» الذين كانوا قد انتهوا وتلاشوا في بلد المنشأ مصر وأيضاً في الأردن وبالطبع في سوريا وكل الدول العربية الأخرى إنْ في أفريقيا وإنْ في آسيا. وحقيقةً أنه كان على هذا الذي تنقل بين كل هذه المحطات الحزبية أنْ يدرك أنّ قوى وأحزاب القرن العشرين قد تلاشت كلها؛ أي حزب البعث الذي لم يعد وجوده إلا اسمياً ورمزياً في سوريا، القطر العربي السوري، وحركة القوميين العرب وحزب التحرير وبالطبع حزب «الإخوان المسلمين» وباقي التشكيلات التي لم يبقَ منها إلا أسماؤها وبعض الأعضاء الذين تجاوزت أعمارهم إن ليس التسعينات فنهايات الثمانينات من الأعوام.
المفترض أنّ هذا الناصري السابق وأيضاَ الاشتراكي الذي أصبح توجهه إخوانياً بات يدرك أنّ «الإخوان المسلمين» باتوا حركة قد تجاوزها التاريخ، وأنهم مثلهم مثل حزب البعث والحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وأيضاً حزب التحرير، لم يعد لهم أي وجود فاعل، والدليل هو أنّ هؤلاء ما إن قام الرئيس التونسي قيس سعيّد بحركته الإصلاحية والتصحيحية في 25 يوليو (تموز) حتى «تفرقوا أيدي سبأ» كما يقال، وحتى أصبح كل منهم يغنّي على ليلاه، بما في ذلك قائدهم الناصري السابق الذي لم يُقبل في أي من الجامعات المصرية واضطر إلى الذهاب إلى دمشق والالتحاق بإحدى الجامعات السورية.
إنه على هذا «الرفيق» الناصري أن يدرك أنّ كل أحزاب القرن العشرين من حزب البعث إلى الحزب الشيوعي إلى حركة القوميين العرب إلى حزب التحرير إلى «الإخوان المسلمين»، باتت أحزاباً قديمة ومهترئة وإنّ ما كان فاعلاً في القرن الماضي لم يعد فاعلاً في القرن الحادي والعشرين، وإنّ حركة التاريخ قد تجاوزت هذه القوى والأحزاب كلها، وإن «إخوان» تونس رغم أعدادهم التي لم تكن تغيب عنها «عين الشمس»، كما يقال، قد تبخرت واختنقت وعصف بها داء الفُرقة والاختلاف، وأنه ثبت أنّ ما كان من الممكن تسويقه في القرن الماضي لم يعد ممكناً تسويقه في هذا القرن، أي القرن الحادي والعشرين!

وهنا فإنّ ما تجدر الإشارة إليه هو أنّ أكثر ما تم تهديد حركة الرئيس قيس سعيّد الإصلاحية به، هو أنّ صاحب القرار في هذه الحركة الإخوانية قد لوّح بأن الألوف من إخوانه سيغادرون تونس بلدهم ووطنهم وسيهاجرون إلى دول القارة الأوروبية وسيشكّلون عبئاً عليها وعلى شعبها قد يصل إلى حد الاقتتال والحروب الدامية... وحقيقة أنّ هذا يؤكد أن قرار الرئيس التونسي كان صائباً، وأنه كان لا بد من التخلص من هذا العبء الثقيل الذي كان يشكّله هذا التنظيم «الإخواني» على هذا البلد العربي الذي كان رائداً وطليعياً في المرحلة البورقيبية.
وحقيقةً إنّ تونس بما قام به الرئيس قيس سعيّد وبكل جرأة وشجاعة وفي لحظة تاريخية كان يجب اغتنامها، قد وضعت حداً لما كان مفروضاً عليها، وأنها قد تخلصت من هذا العبء «الإخواني» الثقيل الذي كانت قد تخلصت منه أرض الكنانة مبكراً وتخلصت منه سوريا أيضاً وتخلص منه الأردن ومعظم الدول العربية، الأفريقية والآسيوية، والمعروف هنا أن حركة التاريخ تسير إلى الأمام لا إلى الخلف، وإن ما كان مقبولاً في بدايات القرن العشرين لم يعد مقبولاً في هذا القرن، حيث إن الأوروبيين قد أدركوا هذه الحقيقة مبكراً التي قد أدركتها حتى بعض الدول الأفريقية غير العربية.
ثم إنّ المفترض هنا براشد الغنوشي، «الناصري» و«التقدمي» السابق، وقد أصبح في هذا العمر، والأعمار بيد الله جلّ شأنه، أن يقف في لحظة صفاء ومراجعة أمام نفسه وأمام رفاقه وأصدقائه ليستعرض تاريخاً طويلاً أمضى جزءاً منه في «زنازين» السجون التونسية ليجد أنه قد ارتكب خطأ فادحاً عندما تخلى عن «ناصريته» في وقت مبكر والتحق بالحركة الإخوانية التي كانت ولا تزال تسير في اتجاه معاكس لحركة التاريخ مثلها مثل أحزاب القرن العشرين كلها... القومية منها والاشتراكية.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال هو أنّ تونس الحالية ليست تونس «البورقيبية» ولا تونس «الإخوانية» وأيضاً ولا تونس «الماركسية – اللينينة»، وبالطبع ولا تونس القومية... إنها تونس القرن الحادي والعشرين، وهذا ينطبق على الدول العربية كلها، إذْ إن عالم اليوم غير عالم الأمس، وإنّ كل شيء قد تغير بعد كل هذه السنوات الطويلة!
ولهذا وما دام القرن العشرون يختلف عن القرن الحادي والعشرين وأن أحزاب الماضي لم تعد تصلح لهذا الحاضر فإنه على الذين ما زالوا يتمسكون بماضيهم السياسي والحزبي أنْ يدركوا أن عالم اليوم يختلف عن عالم الأمس وأنه إذا كان «الإخوان» يصلحون كحزب سياسي في القرن العشرين فإنهم ما عادوا يصلحون في القرن الحادي والعشرين، وهذا بالتأكيد ينطبق على أحزاب المرحلة السابقة كلها مثل حزب البعث والحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب والقوميين السوريين «الإخوان المسلمين»... وهذه مسألة باتت مؤكدة وواضحة والمفترض أنه لا خلاف عليها!
وهكذا فإن ما ينطبق على دول الغرب الأوروبي والأميركي يجب أن ينطبق على الدول العربية كلها وعلى العرب كلهم، فالماضي لم يعد يصلح لا للحاضر ولا للمستقبل وبخاصة بالنسبة إلى الأحزاب والحياة الحزبية. وهنا فإن المعروف هو أنّ عالم اليوم غير عالم الأمس، وأنّ الأجيال الصاعدة غير الأجيال السابقة، وأنّ العلاقات بين الدول باتت تتحكم فيها المصالح المشتركة لا علاقات القربى ومجرد العلاقات القومية، وهذه حقائق مؤكدة وواضحة ومعروفة.
وهذا يعني أن الدافع القومي يجب أن يقترن بدوافع المصالح المشتركة، وأنه إذا كان هناك من يتمسك بما يتمسك به بعض الأشقاء في تونس وفي بعض الدول العربية الأخرى فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن هؤلاء لم يتلاءموا بعد مع حركة التاريخ المستجدة، إذْ إنّ القرن الحادي والعشرين يختلف وفي كل شيء عن القرن العشرين!