علي الصراف يكتب:
انفجار بيروت أم انفجار الوحشية والضلال؟
انفجار مرفأ بيروت ترك حطاما في النفوس أكبر بكثير من حطام المباني في المدينة. والجرح لا يزال مفتوحا ليس لأن التحقيقات لم تصل إلى نهايتها بعد، بل لأن البلاد لا تزال تدور في الفراغ الأمني والسياسي والاقتصادي نفسه. وهو ما يزيد الأعباء ويضيف على الجرح ملحا.
كثيرون زاروا لبنان من بعد الانفجار، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من بين أول الزوار. وتهشمت مساعيهم، الواحدة بعد الأخرى، فلم تفلح طبقة السياسة في التوصل إلى إقامة حكومة إنقاذ.
وفي الذكرى الأولى للانفجار أعلن البابا فرنسيس، أن لديه رغبة “شديدة” في زيارة لبنان، حتى لكأنه أراد القول إنه لم يبق للذين تم سحقهم بدمار المرفأ والذين تم سحقهم بدمار الاقتصاد، من يمكن أن يتضرعوا إليه، إلا الله.
الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة نجيب ميقاتي، قال “إن لبنان في خطر. وإنّ لا شيء ينقذه سوى الوحدة والترفع عن الأنانيات والمصالح الشخصية”.
إلا أن تلك الأنانيات والمصالح لا تزال هي القوة الحاكمة. وهي قوة لا تنوي أن تنزع قبضتها عن البلاد. ولا عن أي بلاد تمكنت من أن تستحكم عليها بمشروعها الطائفي الثوري.
التحقيق في انفجار المرفأ، لا يزال أبعد من أن يكون قادرا على تقديم إجابات شافية عن طبيعة الانفجار وأسبابه، وما إذا كان حادثا، أو عملا متعمدا. كما قد لا يقدر على الغوص في الرواية الحقيقية لمجيء السفينة “روسوس” التي حملت 2750 طنا من نترات الأمونيوم، أو أصلها وفصل مالكيها الحقيقيين، ولا كيف جاز أن تبقى تلك الكمية الضخمة من المتفجرات في المرفأ لنحو ست سنوات، ولا أين ذهبت أطنان منها خارج المرفأ، ومن كان الطرف المستفيد، وكم بقي منها لكي يتفجر.
وهي أسئلة ليست أقل أهمية من معرفة المسؤولين عن الإهمال، والذين آثروا الصمت على التجارة السرية السوداء بين المرفأ وأصحاب المصلحة.
ولبنان لا يزال مصدوما، حتى لكأن الانفجار الذي وقع قبل عام، ظل يقع كل يوم.
الدمار الحقيقي في لبنان، لم يكن الانفجار نفسه، ولا حتى الأزمة السياسية والاقتصادية التي أدخلته جهنم من أوسع أبوابها. فثمة دمار آخر، هو الذي يجيز لحزب الطائفة الأقوى، أن يتاجر بالمتفجرات والسلاح والمخدرات وأعمال الفساد الأخرى وهو يؤمن بأنه يملك كل الحق.
الدمار الحقيقي إنما وقع في تلك الطائفة التي تقف وراء الجريمة، بكل أنماطها، وهي تعتقد أنها تفعل ذلك لخدمة حقوقها ومصالحها، ولو على خراب البلد الذي تعيش فيه. وهو ما يكشف عن أن هناك دمارا أخلاقيا، يدفع ثمنه الجميع، أسوأ بكثير من كل دمار آخر.
الأنانيات والمصالح لا تزال هي القوة الحاكمة في لبنان، وهي قوة لا تنوي أن تنزع قبضتها عن البلاد ولا عن أي بلاد تمكنت من أن تستحكم عليها بمشروعها الطائفي الثوري
انفجار مرفأ بيروت، كان بوسعه أن يهز الضمائر في كل أرجاء العالم. كان بوسعه أن يتسبب بالرعب في كل أرجاء لبنان. كان بوسعه أن يثير تعاطف مئات الملايين من البشر، وشفقة حكوماتهم التي تقدمت لتتبرع بمئات الملايين من أجل أن توفر القليل من المواساة. إلا أنه لم يكن سببا لكي تذرف تلك الطائفة دمعة على ما حصل، رغم أنها تعرف أن نترات الأمونيوم هي جزء من تجارة الجريمة التي يمارسها حزبها الثوري.
هذه الطائفة، بمعناها السياسي، وليس بالضرورة بمعناها الوجودي، هي الانفجار. إنها هي الجريمة التي أمكن أن تمرر، من تحت أنف مشروعها الثوري، كل جريمة أخرى.
ألبنان في الجحيم؟ إنه جحيم النفس التي جعلت من دمار البلد، سبيلا للحياة. ويا لها من “حياة”. إنها إلى الموت أقرب بكثير. إنها قبر الوجود نفسه، حتى لكأنها دعاء بأن أحدا لن ينجي لبنان منها إلا الله.
وهي طائفة القبح في كل مكان آخر. ثقافتها القائمة على ادّعاء المظلومية هي أصل الجريمة وأولها، لأنها هي التبرير الذي سمح بارتكاب أبشع الجرائم بحق مواطنين آخرين اكتشفوا فجأة أن لهم عدوا من أنفسهم، تحوّل إلى وحش كاسر؛ وحش لا يرعوي، ففي وحشيته لا وجود لأيّ قيم ولا أخلاقيات، ولا أيّ اعتبارات إنسانية أو حتى منطقية.
نترات الأمونيوم التي صدّرها الحزب الثوري إلى سوريا تحولت إلى “براميل متفجرة”، لكي تقول الكثير عن تلك الوحشية وعن طبيعتها البدائية.
وفي النزاع الذي تلبّس، لا تعرف كيف، لبوسا طائفيا في سوريا، أصبح من الجائز أن يُقتل أكثر من نصف مليون إنسان، ليس لأنهم انتفضوا ضد الطغيان، بل لأنهم من أنساب معاوية ويزيد. والمساكين لا نسب لهم فيهما على الإطلاق. ولكن ثقافة القبح التي تجيز كل شيء، كان بوسعها أن تُجري كل ما تشاء من تعديلات حتى على الأنساب.
هناك قرآن آخر، وتاريخ آخر، ونظام مفاهيم آخر، يجعل ثقافة تلك الطائفة تعبيرا ثوريا عن الاستعداد لكل بشاعة وقبح، لأنها تملك التبرير، بمقدار ما تملك المغفرة.
اقتل، اسرق، اغتصب، افعل كل ما شئت، فثمة من سوف يتكفل بالشفاعة لك، طالما أنك ترتكب جرائمك انتقاما من التاريخ الآخر، والوجود الآخر والقرآن الآخر. وهو وسيطك عند الله. وحيث أنك “مظلوم”، فذلك ما يجيز لك أن تظلم عندما تستطيع.
ولقد استطاعوا في العراق، استطاعتهم في اليمن.
الثوروية لطالما كانت أداة استغناء عن القيم، من أبسطها، إلى أكثرها تعبيرا عن معنى الوجود الإنساني نفسه. ولكن الطائفية، بما أنها تعريف بديل، لم تكتف بالاستغناء، بل أضفت على تحديه الاستعداد لارتكاب المذابح ضد كل من تقدر عليه.
وحوش على هيئة بشر. يتحدثون لغتك، ويقيمون في جوارك، ويقولون لك “صباح الخير”، ولكنهم في ساعة أخرى، غير ما تعرف تماما.
أعطهم نترات الأمونيوم، وسوف يفجرون بها كل شيء يقف في الطريق. فكيف إذا أعطيتهم بلدا ليحكموه ويتحكموا بموارده؟ أفهل يستطيع أحد أن يمنعهم من الفساد، أو من نهب المال العام، أو من تخريب المؤسسات، أو التصرف كحشد من الرعاع الذين ما كان بوسع الأخلاق أن تخطر لهم على بال؟
ولا توجد وسيلة على الإطلاق تكفل منعهم. وهم يستضعفونك لأنك لا تجرؤ على ما يجرؤون. والنهب جزء من مشروعية العمل الثوري. وهو التعويض الأهم عن “المظلومية”.
لقد تحول المشروع الطائفي، بفضل ثوريته ومظلوميته، إلى قنبلة تنفجر كل يوم. تسحق الملايين، وتثير التعاطف مع الضحايا حتى لتحل لهم الشفقة والصدقة، إلا أن تلك الطائفة لن تذرف دمعة واحدة، حتى لكأن ما يحدث من خلف أفعالها، يحدث في كوكب آخر.