فهد سليمان الشقيران يكتب:
عالم يضجّ بالتعبير
ترتبط النقلات المعرفية التي يكتشفها الإنسان بتغيرات كبيرة تنسحب على مفاهيم أساسية. الثورات الصناعية والعلمية والتقنية والبيولوجية غيرت من مركزيات فكر الإنسان. كل تقدم علمي يزحزح مركزيات ومفاهيم وحقائق؛ وبمستوى مشابه فإن الثورة التقنية غيرت من سبل فهم الإنسان لأحداثه، فالسوشيال ميديا اليوم تقدم طرقها المختلفة لفهم الحدث والتعليق عليه بشكلٍ يختلف عن الذي كان عليه سابقاً.
رولان بارت في مقالة له بعنوان «الكتاب، المثقفون، الأساتذة» يقف ضد إحالة تموقع الكلام إلى «الأصل الخطابي للتعليم» الفكرة القديمة التي ينتقدها ويضع مقابلها قوله: «تبدأ الكتابة حيث يغدو الكلام عنيداً لا إمكان لتحمله، ولا يمكن للكلام أن يتراجع القهقرى. إلا أن بإمكاننا أن نكرر الكلمة ونلوكها. بيد أن كل خدش هنا إضافة وشحن وزيادة. فإن أنا أردت محو ما قلت لا يمكنني أن أقوم بذلك ما لم أظهر أداة المحو ذاتها (كأن أقول: «بالأحرى»، «لقد أسأت التعبير»)، المفارقة إذن أن الكلام، الذي هو عابر سريع الزوال، هو الذي لا يقبل المحو والزوال وليست الكتابة. أمام الكلام ليس بإمكاننا إلا أن نضيف كلاماً آخر».
بارت هنا يتعالى على تفضيل الكتابة على الكلام كما فعل جيل دلوز الذي شن حرباً نظرية على الكلام باعتباره أداة المثقف «القذرة» مقابل «الكتابة النظيفة»، جيل دلوز يبرئ ساحته من جلبة المثقفين، ولا يعتبر نفسه منهم ولا ضمن ادعائهم وزيفهم وفسادهم وضجيجهم إنه لا يدعي فهم كل شيء، ولا يتهافت على المؤتمرات والخطابة والكلمات، ولكنه يصف دوره بأنه ممن يختار موضوعاً فيعكف عليه ثم يختار الذي يليه.
ومشكلة التقنية في قرننا الحالي لا تنفصل عن تحليلات مثيلاتها في القرن العشرين حيث السجال الفلسفي حول وسائل الإعلام التقليدية قد طغت على حديث الجامعات والمكتبات والمؤلفات. لنعد لتحليل جان بودريار حيث يكتب حول الحداثة وتحت عنوانٍ فرعي بعنوان «وسائل الاتصال الجماهيري الموضة والثقافة الجماهيرية» يكتب: «لقد ازدهر هذا الميل الأساسي وتقوى منذ بداية القرن العشرين بواسطة انتشار صناعة الأدوات الثقافية، وانتشار نوع من الثقافة الجماهيرية، والتدخل الهائل لوسائل الاتصال الجماهيري (الصحافة، والسينما، والراديو، والتلفزيون، والإشهار) كما تزايد الطابع العابر والعرضي للمضامين والأشكال. فالثورات في الأسلوب والموضة والكتابة والعادات لا تحصى. وبتجدرها أكثر فأكثر في تغير المنظور، وفي تحول بصري مستمر، تغير الحداثة معناها. فهي تفقد شيئاً فشيئاً كل قيمة جوهرية، وكل آيديولوجيا أخلاقية وفلسفية في التقدم».
بادر عدد من المفكرين العرب المتأثرين بالسجال الفرنسي حول النخبوي والشعبي، المثقف والسلطة، لنقد المثقف والنخبة كما فعل علي حرب وعبد الله الغذامي، وكان لهذا النقد بريقه لتحطيم سلطة المثقف باعتبارها تؤله طرحه وتعطيه مشروعية اعتباطية تجعل منه ديكتاتوراً كما طرح علي حرب، بينما الغذامي أعلن عن سقوط النخبوي وبروز الشعبي، وبرغم حديثه عن نهاية أثر ما بعد الحداثة غير أن نقده للمثقفين وتمجيده للطائر الأزرق «تويتر» وكتاباته عنه لم يتجاوز الأدوات ما بعد الحداثية التي استخدمها في كتابه «القبيلة والقبائلية» الذي تضمن بحسب ناقده نعيمان عثمان مضامين رجعية وذلك في كتابه «القبيلة عجز الأكاديمي ومراوغة المثقف».
لا يمكن إنكار فضيلة حق التعبير التي أتاحتها وسائل السوشيال ميديا ولكن هذا الإنصاف ليس من مهامنا، الأفضل أن نتجه صوب تحليل التطبيقات وما أفرزته من ظواهر.
لقد غيرت الوسائط وأثرت على الأكاديميا في العالم؛ أسس البحث والتوثيق، وأساليب الجمع والتبويب كلها تأثرت بالزحف السوشلي والتقني، والآن ينسحب الأمر على المجال السياسي وأساليب فهم الأحداث الكبرى المستجدة. حتى وقت قريب كان شغف الفهم للحدث يسبق رغبة التعبير عنه وحوله ومعه.
تمنحنا الصور العامة أوهاماً خطيرة عن اكتمال فهمنا للمشهد أياً كان المشهد، بينما تلك جزء من الصورة، والبقية على المشاهد أن يقرأ ويبحث ويتتبع. أتعجب ممن يتحدث في كل ملف من دون أن يكون لديه ما يدل على القراءة بالموضوع أو الاضطلاع به، ولا ما يدل على ذهابه إلى موقع الحدث أو ارتباطه بخباياه ودرس أهله، هنا نكون أمام كتل من «الكلام الفارغ» كما يقول رولان بارت.
ذلك الفضاء السوشلي ليست مشكلته في الفراغ، بل في سياسات الطرح الفارغ. اليوم ثمة جلبة كبرى باسم المواطنة أو الثورة أو الإصلاح، والواقع أن الطرح الفارغ لا بد أن يتشبث بأحد هذه الشعارات من أجل إكساب طرحه مشروعية، لذلك من فقد الأدوات العلمية تزيّا بلبوس الوطنية فأخذ القدسية.. هذه طروحات شعبوية ديكتاتورية لم يصل إليها حتى «المثقف الديكتاتور» على علّاته.
ربما أكبر جريمة اقترفتها السوشيال ميديا أن ما تطرحه في «تويتر» وغيره يتم عن طريق «الكتابة». القول الفارغ يطرح عبر أداة الكتابة وهنا فرق كبير بين الثرثرة المغضوب عليها من قبل حيث «التلفاز» العدو كما يشرح بودريار، أو «الكلام القذر» كما يقول جيل دلوز. الكتابة التي اعتبرها جاك دريدا ليست فقط مضارعة للغة ولا ناقلةً لها وإنما سابقة لها ومتجاوزة امتهنت لتكون أداة تصويت. ثمة مقالات في الصحف لا يمكن وصفها بالكتابة بقدر ما ينطبق عليها وصف «التصويت»؛ إنها تعابير صوتية مدونة لأن المسافة بين الخطابة والكتابة لا يمكن ردمها بالورقة والحبر، فالكتابة «مفهوم» وليس «خطّاً» إنها أدق من ذلك بكثير. لكنها اليوم تستخدم «ثقافياً وصحافياً» للارتزاق والتزيّد والتناهب، وهذا داء أخلاقي وليس موضع نقاشنا هنا.
بآخر المطاف؛ فإن ما تطرحه السوشيال ميديا يرسل للجميع نتيجة صادمة مفادها أن بإمكانك حين تكون جريئاً ابتذال كل المجالات، لنسأل أنفسنا كم عدد من يريد الدرس والفهم مقابل من يتهافت على التصدّر والتعبير؟!