محمد أبوالفضل يكتب:
اختفاء سد النهضة من السياسة والإعلام في مصر
يتذكر المتابعون للأحداث الإقليمية أن سد النهضة الإثيوبي شغل الكثير من السياسيين والمواطنين في مصر قبل شهر أو أكثر، وانصبّ تركيز العديد من الدوائر المحلية على رصد تطورات الأزمة وتداعياتها من جوانب مختلفة، وكانت مصر تصحو وتنام على هذه الأزمة بسبب تضخيمها والنفخ فيها، وعاشت ما يشبه أجواء الحرب.
السد الآن اختفى من تصريحات الدوائر السياسية واهتمامات وسائل الإعلام مع أنه من الملفات المصيرية التي تمثل تهديدا للأمن القومي، فهل حلّت القاهرة الأزمة أم لم تكن هناك أزمة أصلا وجرى اختراعها لشغل الرأي العام عن أزمات داخلية وزيادة شعبية النظام الحاكم؟ أم قبلت القاهرة التعامل مع الأمر الواقع؟ أم أن هناك مستجدات يتم التعويل عليها لتغيير المعادلة التي تحاول إثيوبيا فرضها؟
لا تزال الأزمة مستمرة بكل التباساتها والإجابات متناثرة حول الأسئلة المطروحة ولم تطرأ تحولات على الإجراءات الإثيوبية تفيد بوجود ليونة واستجابة للرؤية المصرية.
كل ما حصل أن عوامل الطبيعة وقلق بعض القوى الدولية والمشكلات الداخلية في إثيوبيا لعبت دورا مهما وخفّفت من مخاوف القاهرة العاجلة، فقد جاء فيضان هذا العام كثيفا في وقت لم تكتمل فيه مرحلة البناء المطلوبة لإتمام الملء الثاني خلال شهري يوليو وأغسطس بما يمكّن من استيعاب نحو 18.5 مليار متر مكعب، ولم تصل أديس أبابا إلى الارتفاع المطلوب للممر الأوسط في جسم السد وهو 595 مترا وتوقف البناء عند ارتفاع 573 مترا، ما قلل من حجم المخاطر المصرية.
أدت هذه النتيجة إلى استيعاب حوالي 8 مليارات متر مكعب فقط في خزان السد، وهي كمية لم تصب مصر بأضرار حقيقية، خاصة مع زيادة فيضان النيل الأزرق هذا العام عن المستوى المعتاد، ما يعني أن التقديرات الإثيوبية غير دقيقة لأن أديس أبابا أعلنت في منتصف يوليو الماضي أنها نجحت في إنجاز الملء الثاني دون تقديم تفاصيل.
كانت هذه واحدة من العوامل التي امتصت الغضبة المصرية، خاصة أن هناك شعورا بأن عملية الملء الثاني لم تكتمل بسبب وجود ضغوط إقليمية ودولية، ما يمثل حلاّ وسطا، حيث تحقق إثيوبيا إرادتها في الملء المنفرد من دون أن تصيب القاهرة أو الخرطوم بأضرار ملموسة، وهي النقطة التي عندها يمكن أن تتطور الأوضاع للأسوأ.
صوّرت تصريحات في مصر والسودان أن الملء الثاني سيكون كارثيا وحشدتا أدواتهما الدبلوماسية لحضّ المجتمع الدولي على ممارسة ضغوط بالغة على إثيوبيا، الأمر الذي لم يحدث فعليا، فقد أخفقت جلسة مجلس الأمن الدولي التي عقدت في الثامن من يوليو الماضي في الخروج بموقف داعم للبلدين وجاءت غالبية كلمات الدول الكبرى في جلسة المجلس داعمة لإثيوبيا ومطالبة باستمرار المفاوضات على طاولة الاتحاد الأفريقي والتحذير من اللجوء إلى التعامل مع الأزمة بخشونة.
كانت هذه الجلسة فارقة في التحركات السياسية، حيث تيقنت القاهرة أنه لا مناص من المضي في الحل التفاوضي، والآن ابتعد شبح الحرب الذي لاح في الأفق قبيل الملء الثاني، وبدت العودة إلى طاولة المفاوضات غامضة من خلال آلية الاتحاد الأفريقي أو أيّ آلية أخرى بديلة، وحتى الوساطة الجزائرية التي أعلن عنها منذ حوالي شهر لم تتّضح ملامحها ولا تزال مكوّناتها غائبة.
سقطت كل الحلول العسكرية والسياسية والفنية كأن الأزمة غير موجودة، وكل دولة تتصرف دون التوقف عندها تقريبا، ما أثار تساؤلات حيال مغزى الضجة التي أثيرت الفترة الماضية بشأن التحديات التي يفرضها سد النهضة على العلاقة بين القاهرة والخرطوم من ناحية وأديس أبابا من ناحية أخرى.
وامتدت الهواجس إلى حديث جادّ حول إمكانية حدوث توابع لأزمة سد النهضة على منطقة حوض النيل، وسعت الدول الثلاث، كل على طريقتها، إلى تطوير علاقاتها مع دولها كنوع من الحماية والردع الاستراتيجي.
يتزامن الصمت الحالي مع بعض التطورات النوعية، أبرزها تسارع وتيرة التحركات المصرية لسد العجز المتوقع في المياه من خلال مشروعات كبيرة للتحلية وإعادة تدوير المياه وترشيدها، ووصول رسالة القاهرة للمجتمع الدولي الذي شعر بأن انفلات الأزمة يمكن أن يهدّد الأمن والسلم الإقليميين، وتحركت بعض القوى فيه لفرملة اندفاعات كل من مصر وإثيوبيا نحو خيارات صدامية.
الهدوء الراهن بشأن سد النهضة أدى إلى شكوك في الاتهامات المصرية بالتعرض لأضرار جسيمة من وراء إقامة المشروع بالمقاييس الإثيوبية بعد مرور الملء الثاني بسلام وتحاشي القاهرة للتداعيات السلبية المفترضة
جاء تبريد الأزمة مع تفاقم المشكلات الداخلية في إثيوبيا، بما يشير إلى إمكانية خلط أوراق حكومة آبي أحمد التي راهنت على سد النهضة كبوتقة تنصهر فيها الشعوب الإثيوبية وتنسى معها خلافاتها، لكن المعارك لم تعد قاصرة على إقليم تيغراي الذي انتصر على قوات الحكومة الفيدرالية، وبدأت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي الدخول في حرب واسعة بعد تمكنها من السيطرة على حدود الإقليم التقليدية، وتضافرت معها حروب تشنها جماعة الأورومو والعفر والأمهرا.
وصلت شرارة الحرب إلى منطقة بني شنقول المقام عليها سد النهضة، بما يشي بأن البناء قد يتعطل جراء هذه المعارك، الأمر الذي بعث بتطمينات غير مباشرة للقاهرة تعني بأن الأزمة يمكن أن تحل عبر انفجار أزمة أخرى في الداخل، وهو رهان مصري غير مضمون لأن سد النهضة سوف يظل خيارا قوميا تلتفّ حوله الشعوب الإثيوبية بعيدا عن توجهات الحكومة المركزية، ولأن غالبية القوى الكبرى ترفض المساس بوحدة الدولة الإثيوبية.
أدى الهدوء الراهن بشأن سد النهضة إلى شكوك في الاتهامات المصرية من زاوية التعرض لأضرار جسيمة من وراء إقامة المشروع بالمقاييس الإثيوبية بعد مرور الملء الثاني بسلام، وأن القاهرة يمكنها تحاشي التداعيات السلبية عبر مخزون المياه الوفير في بحيرة السد العالي، وأن تصعيدها تمكن معالجته دون إثارة الرأي العام.
الحاصل أن مصر تعمل على أكثر من خط في توقيت واحد، فهي تتمسك بالتفاوض مع إثيوبيا، ولوّحت بإمكانية اللجوء إلى حلول عسكرية، وخاطبت المجتمع الدولي والقوى الكبرى فيه عبر قناة مجلس الأمن، وسعت إلى تطوير علاقاتها في منطقة القرن الأفريقي، ولمست انحناءة إثيوبية مع احتدام العواصف في الداخل، وتحدّ من الإسراف في استهلاك المياه، وكلها من العوامل التي تفضي إلى الهدوء.
كما أن السخونة التي سادت الأشهر الماضية تراجعت بسبب تلاشي الأضرار المنتظرة من وراء الملء الثاني، وسوف تعود مرة أخرى قبل بضعة أشهر من موعد الملء الثالث في يوليو المقبل، بالتالي هناك وقت تستطيع فيه الدول الثلاث ترتيب أوضاعها، عبر ضخ دماء في عروق العملية التفاوضية أو حدوث مستجدّات على الساحة الإثيوبية تؤدي إلى قلب الطاولة على حكومة آبي أحمد.