د. علي محمد فخرو يكتب:

الحاضر العربي.. أزمات قيم والوطنية الجامعة فقدت مكانتها القيمية

هناك أزمة قيم فلسفية فكرية وأخلاقية وسلوكية على مستوى العالم، تناقش بجدية وهلع على الأخص في الدول المتقدمة ويكثر الكلام حول ما بعد حداثة الأنوار الأوروبية، وما بعد حداثة الليبرالية الغربية، اللتين هيمنتا على العالم عبر قرون عدة.

وبالمثل، لنا نحن العرب أزمة قيم خاصة بنا، إضافة إلى مشاركتنا، ولو جزئياً، ولكوننا من بين المناطق التي خضعت للاستعمار وثقافته وقيمه ردحاً من الزمن، في مواجهة تلك الأزمة العولمية. وهي أزمة مرتبطة إلى حد ما بالتشوه الذي أصاب الكثير من قيمنا التاريخية التراثية التي تحدثنا عنها في مقال سابق، والتشوه الذي أصاب القيم التي أضافها الإسلام بزخم كبير وتشذيب هائل، في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، كما بينا في مقال الأسبوع الماضي. وندرك أهمية تلك الإضافة عندما نعرف بأن القيم هي جمع كلمة قيمة التي وردت مشتقاتها ودلالاتها بما يزيد على ال650 مرة في القرآن الكريم وحده.

في مقال اليوم سنبرز أهم مكونات الأزمة القيمية التي تواجهها مجتمعات الوطن العربي بظلالها ومستوياتها المختلفة في اللحظة التي يعيشها هذا الوطن.

أولاً: أكبر وأعمق أزمة قيم نواجهها تقع في حقل الفكر السياسي العربي الحالي، وعلى الأخص في الأيديولوجية القومية. هناك تراجع قيمي في موضوع هوية العروبة الجامعة، تراجع في أولوياتها ومقدار فائدتها؛ بل وحتى في ضرورة تواجدها. هذا التراجع بدأ يعكس نفسه في الواقع الحياتي فيما بين الأقطار العربية، من صعود مذهل في الصراعات العبثية فيما بينها، ومن تخلي البعض عن التزاماته تجاه قضايا قومية كبرى. وفي خضم ذلك التراجع أصبح شعار الوحدة العربية فجأة شعاراً هامشياً، وأصبح كل نشاط يقود إلى تلك الوحدة نشاطاً مهملاً، كما هو الحال بالنسبة للأمن القومي والمشاريع الاقتصادية المشتركة على سبيل المثال.

بل إن الوطنية الجامعة في القطر العربي الواحد فقدت مكانتها القيمية لتحل مكانها القيم العشائرية والعرقية والدينية المذهبية. وهذا بالطبع يهدد مستقبلاً الانتقال إلى القيم الديمقراطية المعروفة، كالمواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص الحياتية والكرامة الإنسانية، مما يهيئ الأجواء للفساد المالي والسياسي والاقتصادي.

ثانياً: ولا توجد فجيعة أكبر من التراجع في قيمة التسامح الإسلامي أو التعايش مع الديانات الأخرى أو حرية المعتقد، كما فجرتها ومارستها القوى العنفية والإرهابية الإسلامية في السنوات الأخيرة على الأخص. وهذا موضوع بالغ الأهمية، لأنه لم يعد في يد من يحملون أوزاره؛ بل أصبح في يد القوى الاستخباراتية الأجنبية الممولة والداعمة له. وهو مرتبط أشد الارتباط بموضوع كبير: موضوع المراجعة الضرورية الشاملة لتنقيح ما علق بالتراث الإسلامي من خرافات وأكاذيب واستعمال انتهازي.

ثالثاً: وهناك إشكاليات كبرى في التراجع القيمي الأخلاقي: في العلاقات الأسرية، وعلاقات الفرد مع الجماعة، والكثير من السلوكات العبثية، وفي العنف ضد المرأة، وفي عوالم المخدرات المتعاظمة.

رابعاً وأخيراً: هناك إشكالية التراجع القيمي الكبير في حقول الاقتصاد من مثل عدم عدالة توزيع الثروة، وانتشار الفقر والبطالة، وتخلي بعض الدول العربية عن مسؤولياتها في الرعاية الاجتماعية.

هذه فقط أمثلة للتراجعات القيمية التي تمثل أزمة كبرى قد تتفاقم في المستقبل إلى حدود الكوارث. والسؤال المفصلي: ما العمل؟

 

تحكيم القيم في الحياة العامة

لم يكن المقصود من الحديث عن أزمة القيم على مستوى العالم وعلى مستوى الوطن العربي، وعن الخلفية التاريخية والإسلامية للكثير من القيم العربية السائدة، الصالح منها والطالح، أن يكون مراجعة أكاديمية، لقد كان الهدف هو تعميق الوعي السياسي لدى أوساط الشباب والشابات العرب من خلال تأكيد أن الممارسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية التي لا تحكمها موازين القيم الإنسانية الكبرى والقيم الدينية الروحية قابلة للشطط وللاستعمال الانتهازي؛ بل ولتدمير بيئة الإنسان الطبيعية والحضارية، كما نراها الآن ماثلة أمامنا.

ذلك أن الميكافيلية في السياسة، التي رفعت شعار الغاية التي تبرر كل واسطة، وتبعتها الليبرالية الكلاسيكية التي طرحت ما اعتبرته إشكالية التعارض بين حرية الفرد والتزاماته القيمية، وتبعتها مؤخراً النيولبرالية العولمية التي أعطت الأولوية لمتطلبات السوق فوق كل اعتبار آخر، بما فيها أهمية تحكيم قيمة العدالة، وهي كبرى الفضائل التي عرفتها البشرية، وتتبعها الآن بخطى حثيثة حركة ما بعد الحداثة التي انخرطت في عبادة صنم جديد، صنم الفردية الأنانية والحرية المطلقة... ذلك أن كل ذلك، مشفوعاً بما أوردناه في مقال الأسبوع الماضي من أطروحات تشويه وتدمير الكثير من قيم الثوابت العربية في مجالات الفكر القومي العروبي الوحدوي، كل ذلك يعمل في الليل والنهار على توجيه الوسط الشبابي العربي إلى مزالق خطرة في ساحات نضالهم التغييري اليومي.

نحن إذن نريد تذكير الكل بأنه مثلما هناك مدارس تهميشية لمكانة القيم في حياة الإنسان، وعلى الأخص في حياته السياسية والاقتصادية، فان هناك أيضاً مدارس أخرى. وهناك أصوات ضميرية كثيرة تنادي بعكس ذلك.

دعنا نأخذ مثالاً واحداً من الساحة السياسية الأمريكية. فعندما سئل الرئيس كيندي، وهو الكاثوليكي الديانة، إن كان ستكون لعقيدته الدينية أية تأثيرات على القرارات العامة التي سيأخذها، أجاب بالنفي التام وأنه سيحتكم فقط إلى ضميره الإنساني. ولكن عندما طرح السؤال نفسه على الرئيس أوباما كان جوابه مختلفاً؛ إذ أكد أن السياسة التي لا تتأثر بالقيم الدينية هي سياسة قابلة للتشوه. جوابان مختلفان في ساحة سياسية واحدة.

إذن فالقيم لا تطلب لذاتها وفقط على المستوى الفردي. إنها تطلب أيضاً على المستوى الجمعي لارتباطها الشديد بنوعية ونقاء الحياة الجمعية في كل الحقول.

وبالطبع هناك قيم متميزة مفصلية تعلو على كل القيم من مثل العدالة؛ ذلك أنها وقيمة الحرية والكرامة الإنسانية شغلت بصورة كبيرة وعميقة كل الديانات والمدارس الفلسفية والفكر السياسي والاقتصادي. وكان ذلك الاهتمام طبيعياً لحسم موضوع ادعاء البعض بأن العدالة لا تتعايش مع الحرية. فإذا حسم موضوع تعريف معنى الحياة الطيبة فإنه سيظهر أنه لا تعارض بين القيمتين، وإنما سيثبت بأن قيمة العدالة يجب أن تحكم كل قيمة أخرى من مثل الحرية والديمقراطية والمساواة والتعايش السلمي والتسامح والعطاء، وغيرها كثير.

إذ عندما يطرح شباب وشابات الأمة شعاراتهم السياسية والاجتماعية والمعيشية عليهم عدم نسيان القيم الكبرى التي يجب أن تحكم كل تلك الشعارات والمطالب وأساليب تفعيلها، وعلى الأخص رأس الفضائل: فضيلة العدالة.