علي الصراف يكتب:
العالم المحاصر بين براغماتياته واعتدال طالبان
الانشغال العالمي بالاعتراف بحكومة طالبان وانتظار خطواتها هو جزء من الحصار الذي تفرضه هذه الحركة على العالم.
صارت أفعال طالبان هي شغلنا الشاغل. جائحة كورونا عادت إلى المرتبة الثانية من الاهتمامات، كما احتلت مظاهر التغير المناخي التي ما تزال تضرب أطرافا شتى من العالم مرتبة أدنى. والسبب هو أن دولا كبرى تبحث الأسس التي يمكن بموجبها الاعتراف بحكومة طالبان.
طالبان تقول إنها تغيّرت، وإنها تريد أن تقيم علاقات تعاون مع كل دول العالم بما فيها الولايات المتحدة، إلا أن المخاوف ما تزال قائمة من أن التغيّر المزعوم ما يزال يفتقر إلى الأدلة. وجوهر هذه المخاوف هو أن يعود التطرف ليوفر مناخا لأعمال إرهاب جديدة تكرر جريمة الحادي عشر من سبتمبر 2001، أو حتى أسوأ منها.
القاعدة وداعش يضيفان إلى المخاوف ما يعززها. فهذان التنظيمان ما يزالان يمتلكان أرضية راسخة في أفغانستان. ويعود “الفضل” في هذه الأرضية إلى الثقافة الطالبانية نفسها.
هذه الثقافة لم تقل إنها تغيّرت على امتداد السنوات العشرين الماضية. تم إعلان العزم على التغيير فقط عندما دخلت طالبان كابول ووجدت نفسها أمام الحاجة إلى إقامة حكومة، ثم وجدت نفسها أمام الحاجة إلى تمويلات تدعم هذه الحكومة.
بمعنى آخر: مزاعم التغيير ليست سوى محاولة براغماتية للتغلب على المصاعب الآنية، ومن أجل البحث عن مداخل لجعل الحكومة الجديدة قادرة على العيش.
اعتبارات براغماتية صغيرة أخرى، من قبيل كفالة ترحيل كل من بقي راغبا بالرحيل، هي التي تدفع إلى الامتناع عن قطع الكلمة تجاه حكومة طالبان. فالولايات المتحدة وحلفاؤها يريدون ألا يصبح هؤلاء رهائن لدى الحركة إذا ما استأنفت تطرفها. ثم هناك طبعا، بعض الأطماع المتعلقة بالاستثمارات الممكنة في أعمال التنقيب واستخراج المعادن. كما أن هناك الرغبة الأشد بأن لا تقع أفغانستان في حضن الصين.
القاعدة وداعش يضيفان إلى المخاوف ما يعززها. فهذان التنظيمان ما يزالان يمتلكان أرضية راسخة في أفغانستان. ويعود “الفضل” في هذه الأرضية إلى الثقافة الطالبانية نفسها
كل تجارب التاريخ أثبتت أنك ما أن تضع الاعتبارات البراغماتية فوق الاعتبارات المبدئية، حتى تنتهي بمأساة، لا تكسب منها هذا ولا ذاك. هذا الأمر يصح على طالبان التي تحاصر العالم بين اعتدالها وتطرفها، كما يصح على الولايات المتحدة وحلفائها، الذين فشلوا في أن يقيموا نظاما قادرا على أن يبني ثقافة أخرى، كما فشلوا في أن يرسوا استثمارات أصلا.
الانسحاب على فشل، يُفترض أن يعني اعترافا به كفشل. نقطة رأس السطر. أما التعويل على بناء مصالح والفوز بضمانات، لما بعد الفشل، فهو محاولة للهرب إلى الأمام.
هناك قواعد وشروط لقبول أي حكومة لتكون جزءا من المجتمع الدولي. هذه القواعد سطرها ميثاق الأمم المتحدة بوضوح تام. وليس المطلوب من أي دولة في العالم إلا القبول بها واقتفاء أثرها. أو انتظار العزلة والعقوبات.
لا تحتاج الولايات المتحدة، ولا أي دولة أخرى في العالم تحار اليوم في ما إذا كان يمكن الاعتراف بحكومة طالبان أو قبول التعاون معها، إلا أن تضع أمامها المعايير والقواعد التي اشترطها ذلك الميثاق.
لا دين في ذلك، ولا أيديولوجيات ولا مصالح ولا براغماتيات. إنه ميثاق للتعايش الإنساني فحسب، كان هو نفسه ثمرة مرارات وحروب مروعة.
إذا كان دينك يبدو كمشكلة حيال القبول بمعايير وقيم التعايش الإنساني، فهذه مشكلتك أنت. وعليك أنت أن تتكفل بحلها، بأن تنتج الثقافة أو التأويلات الملائمة للقبول بقيم التعايش.
مشكلة طالبان الحقيقية هي مع نفسها. يفترض بالعالم كله أن يقول لها ذلك، بصوت جلي، وعلى أساس اعتبارات إنسانية لا لبس فيها، ولا تأخذ بالاعتبار أي مصالح ثانوية. ويفترض أن توضع البراغماتيات كلها جانبا.
لقد كفل ذلك الميثاق قواعد سلوك على الدول مع بعضها البعض، كما فرض عليها قيما إنسانية مشتركة لضمان العدالة والمساواة والحريات.
نعلم جميعا أن هناك حكومات لا تحترم هذه القيم ولا كل القواعد. وهذا جزء من أسباب الصراعات الدولية المتواصلة. إلا أن وضعا كالذي ينشأ الآن في أفغانستان يُملي وضع تلك القيم والقواعد على طاولة التفاوض. لا شيء أكثر منها.
دولنا تواجه السؤال: نعترف أم لا نعترف بحكومة طالبان؟ ننتظر ما تأخذه من خطوات، أم نكتفي بالوعود؟ نضع شروطا مسبقة، أم نشجع على الأخذ بها تدريجيا؟ نتقدم بمبادرات للتعاون، أم نكتفي بتقديم الوعود؟
وكم كانت دولنا في غنى عن البحث عن جواب لو أنها طلبت من طالبان أن تحل مشكلتها مع نفسها أولا. أو على الأقل أن تقدم الدليل الفقهي الذي يسند الزعم بأنها “تغيرت”.
لقد شكلت طالبان حكومة ليس فيها امرأة واحدة.
كان ذلك نوعا من الجواب!
وخرج المئات من النساء يتظاهرن في كابول لا يرتدين “التشادور” للاحتجاج. كان ذلك نوعا من جواب مضاد.
يخادع العالم نفسه بانتظار خطوات طالبان. فما أن انحرفت المشاغل عن الأسس المبدئية للقبول بأي حكومة، حتى أصبحت المخادعات البراغماتية هي البديل “العملي” الوحيد للعلاقة مع كائنات لم تحل مشاكلها مع نفسها
كل طالباني وقف ينظر إلى تلك التظاهرات ويشعر بالرغبة الجامحة بإطلاق النار، كان يقول للعالم إن براغماتيات الملا أخوند زادة لن تدوم طويلا. إنها صلح حديبية آخر مع الكفار.
وعندما يكون التحدي داخليا بهذا المقدار، من النساء خاصة، فإن القسوة القصوى هي الجواب الوحيد الذي تملكه طالبان. وهي الجواب الوحيد الذي يتوافق مع ثقافتها.
يخادع العالم نفسه بانتظار خطوات طالبان. فما أن انحرفت المشاغل عن الأسس المبدئية للقبول بأي حكومة، حتى أصبحت المخادعات البراغماتية هي البديل “العملي” الوحيد للعلاقة مع كائنات لم تحل مشاكلها مع نفسها.
هذا الشيء نفسه يتكرر مع إيران. فهذه دولة لم تترك شيئا في ميثاق الأمم المتحدة إلا وانتهكته. بينما دول البراغماتيات والمصالح الانتهازية تبحث عن سبيل لعقد مساومات معها.
أفغانستان يمكن أن تعود لتكون مصنعا لإنتاج منظمات إرهاب، بينما إيران مصنع قائم منذ اثنين وأربعين عاما لإنتاج ذات النوع من ميليشيات الإرهاب. الفرق الوحيد بينهما هو أن مصنع أفغانستان عالمي الاهتمامات، يضرب في نيويورك، بينما مصنع إيران إقليمي يضرب في سوريا والعراق واليمن ولبنان.
احترام القيم الإنسانية وقواعد العلاقات بين الدول التي سطرها ميثاق الأمم المتحدة، كان يُملي طرد إيران من هذه المنظمة الدولية وليس التفاوض معها. وهو يُملي القول لطالبان: حلوا مشكلتكم مع هذا الميثاق، قبل أن تطلبوا منّا أي اعتراف.