محمد أبوالفضل يكتب:
إشكاليات المنحة القطرية لغزة عرض مستمر
لم تكن الطريقة التي عرضت بها قطر تقديم مساعداتها المادية لقطاع غزة بريئة سياسيا منذ البداية، لذلك كلما يتغلب السفير محمد العمادي على مشكلة أو يعتقد أنه تجاوز عقبة معينة تظهر له مشكلة أو عقبات أخرى، فهناك أطراف محلية وإقليمية ودولية على صلة بها تريد تقديمها وفقا لمقاييس تتواءم مع حساباتها السياسية.
في آخر طبعة أو مشكلة أو عقبة، أعلنت الدوحة أن السلطة الفلسطينية تنصلت من اتفاقها لتحويل الأموال إلى غزة، خشية اتهامها بدعم الإرهاب، في إشارة إلى أن جزءا من هذه الأموال يذهب إلى خزينة حماس، مع أن الاتفاق الأخير قصر المساعدات على المواطنين والإنفاق على بعض الخدمات، واستبعد تخصيص مبالغ لقيادات الحركة.
يبدو من تنصّل السلطة الفلسطينية كأنها اكتشفت فجأة أن حماس منبوذة أو موضوعة على قوائم الإرهاب في بعض الدول، لكن المعنى الظاهر الذي ينطوي عليه التنصّل هو أن السلطة تريد ممارسة ضغوط على حماس لإجبارها على تقديم تنازلات في ملفات عديدة يتخاصم ويتشابك فيها الطرفان.
لعل توقيت إعلان الدوحة عن خروج السلطة الوطنية من اتفاق استئناف المنحة يفسر السبب الرئيسي للانسحاب ويتعلق بتزايد وتيرة تنسيقها مع كل من مصر والأردن، والذي ظهرت معالمه عبر القمة الثلاثية التي عقدت في القاهرة مؤخرا بهدف إيجاد تصورات مشتركة للتحرك خلال الفترة المقبلة، وقبول رئيس السلطة محمود عباس بالتعاون مع كل من قطر وحماس الآن يخصم من رصيده لدى القاهرة وعمّان.
تبدو فكرة اتهام حماس بالإرهاب كمبرر لانسحاب السلطة غير مقنعة، لأنها تعلم الكثير مما يجري مع حماس وتتحاور معها ليلا ونهارا، وسرا وعلانية، كما أن دور الوسيط الذي كان من المقرر أن تلعبه لتوصيل المنحة القطرية لغزة تم بالتوافق مع الأمم المتحدة التي تعلم من أين جاءت الأموال، وإلى أين ذاهبة، وكيف سيتم إنفاقها؟
يبقى الخيار الراجح هو أن أبومازن قرر الاحتفاظ بمسافة بعيدا عن الدوحة كي لا يخسر القاهرة في الوقت الراهن وهو يستعد للذهاب إلى اجتماعات الأمم المتحدة بعد أيام وفي جعبته مبادرة لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل.
ومع أنه جرى تطبيع العلاقات بين مصر وقطر وتهدئة الأجواء وتخفيض مستوى الخلاف في القضية الفلسطينية وروافدها، إلا أن تحركات الدوحة في غزة وما تضفيه المنحة من مكاسب لها لا ينسجم مع تطلعات القاهرة للقبض على مفاتيح القطاع في مسألتي إعادة الإعمار والوساطة بين حماس وإسرائيل لتسوية مجموعة من الملفات العالقة الخاصة بتخفيف الحصار وفتح المعابر.
ولا تزال النظرة المصرية أكثر شمولا في التعاطي مع ما يدور في القطاع من قطر، وهو ما يدفع حماس لتنجذب أكثر لمنهج الثانية القائم على التعامل بالقطعة مع غزة.
أصبحت المنحة قميص عثمان الذي يمنح الدوحة نفوذا ويمكنها من الانفتاح على جهات عديدة باعتبار أن هذه الأموال تسهم في تخفيف معاناة شريحة من المواطنين المحاصرين في قطاع غزة، ما يتطلب التنسيق مع إسرائيل والأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية وتجنب الصدام مع مصر والحفاظ على الهدوء معها.
وأصبحت المنحة القشة التي تتعلق بها حماس لدعم وجود الدوحة في القطاع كي لا تكون رهينة للإرادة المصرية التي تميل ناحية حركة فتح والسلطة الوطنية في الكثير من ترتيبات وقف الانقسام والمصالحة بين الفصائل والتحركات الرامية لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل والعمل على حلّ الدولتين.
تحولت الأموال القطرية من منحة إلى محنة لكثرة التناقضات التي تعترضها، فإذا وافقت حماس على قبولها وتمريرها عبر السلطة الفلسطينية وضعت إسرائيل شروطا تقلل من استفادة الحركة منها، وإذا توصل الجانبان لتفاهمات اعترضت السلطة، وهكذا لا تتوقف التحديات التي تعتريها لأن أموال قطر أكبر من مجرد مساعدات إنسانية.
قد يكون المدخل المعلن مساعدة الفلسطينيين في غزة وتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية التي يعانون منها، غير أن التداعيات أكدت أن أهدافها السياسية تفوق ذلك، فهي حبل إنقاذ لحماس التي تسيطر على القطاع ووسيلة لاسترضاء شريحة كبيرة من المواطنين في ظل شح الموارد وتوجيه الجزء المتاح للمجهود العسكري.
بدأت المنحة كرشوة للمزيد من استقطاب الحركة للدوحة وربطها بها وضمان توظيفها سياسيا، وهو ما تدركه إسرائيل التي تجد دوما مصالحها في زيادة حدة الانقسامات داخليا وإقليميا، حيث يمثل الانخراط في مناوشات جانبية بين الفلسطينيين والعرب عموما ميزة مهمة تمكن إسرائيل من الشد والجذب في الوقت الذي تختاره.
مهما كانت نوايا قطر النبيلة التي دفعتها لاختراع المنحة وطريقة توزيعها فهي لا تخلو من مكونات سياسية، نجحت إسرائيل في الاستفادة منها سواء بعلم الدوحة أو من دونه
تعتبر إسرائيل الأموال القطرية وسيلة مستمرة لاستنزاف الجهود الفلسطينية، فتنصل السلطة من اتفاقها الأخير يعني رفع درجة التصعيد ضدها من قبل المستفيدين من المنحة في غزة، وتوجيه جزء من جهود حماس إليها، ما يقود في النهاية للمزيد من خلط الأوراق الذي يمنح تل أبيب فرصة لعدم التجاوب مع أي ضغوط دولية بذريعة أن القوى الفلسطينية منقسمة على نفسها ولا تتفق على حد أدنى من التفاهمات الحياتية.
مهما كانت نوايا قطر النبيلة التي دفعتها لاختراع المنحة وطريقة توزيعها فهي لا تخلو من مكونات سياسية، نجحت إسرائيل في الاستفادة منها سواء بعلم الدوحة أو من دونه، والأمر الذي حولها إلى مأزق حاليا أنها مضت في دروب ودهاليز غير معتادة.
يكفي إرسال الأموال من خلال المعابر الإسرائيلية للقول بوجود أغراض دعائية لأطرافها الرئيسية أكثر منها إنسانية، فقطر توحي بأنها الجهة الأشد تعاطفا مع الفلسطينيين، ما يحمل إسقاطا سلبيا على مصر التي تفصل حدودها عن غزة بضع خطوات وتفتح وتغلق معبر رفح الواصل بين الجانبين وفقا لتقديرات سياسية وأمنية.
وتريد إسرائيل التأكيد أنها لا تمانع في مساعدة سكان غزة وأن الحصار المفروض لدواع أمنية بدليل أنها تتساهل في نقل الأموال القطرية أمام العالم، في محاولة للتقليل من أهمية استهدافها سياسيا أو ممارسة ضغوط دولية عليها تحت لافتات إنسانية.
قبلت حماس بالصيغة الأخيرة للمنحة التي حرمتها من حوالي عشرة ملايين دولار كل شهر، أي ثلث القيمة الإجمالية، كي تحافظ على استمراريتها وسط تذمر واسع من سكان غزة، حيث يحملون سياسات الحركة مسؤولية ما يجري لهم من حصار، أملا في حدوث استدارة تمكنها من تصويب توزيع المنحة بالطريقة التي تريدها مستقبلا.