حكيم مرزوقي يكتب:
التونسيون يرفضون الإخوان لأكثر من بديل وأكثر من سبب
التونسي الذي يذهب إلى صلاة الاستسقاء ومعه مظلة واقية من المطر، سيشكك فورا في قوة إيمان من يؤمه الصلاة، وينفضّ من حوله إن عاد إلى بيته والجفاف سيد الموقف.
هذه المقاربة الكاريكاتيرية التي يروّج لها مدعو الاعتدال والوسطية، قد تقسو على التونسيين قليلا، تتهمهم بالنزق ونفاد الصبر في عالم السياسة المبني، بطبيعته، على التخطيط والروية، لكنها تتجاهل الوعود الكاذبة التي أطلقها الإسلاميون مع شركائهم بالحكم في العشرية الأخيرة، وتحاول تبرئتهم من الفساد الذي صار سلوكا يوميا.
نعم، يكاد يجمع المراقبون والمتخصصون في علم النفس الاجتماعي (السيكو ـ سوشياليزم) على أن المجتمع التونسي صار ملولا وقلوقا أكثر من أي وقت مضى، وودّع سنوات الصبر الطويل مرة واحدة وإلى الأبد.
لعل من أنفس ما جاد به هامش الحريات الذي حلّ بالبلاد، رغم فوضويتها، هو تحطيم التماثيل المقدسة في عالم السياسة وعدم تحمل خطبها الرنانة الطويلة المحفوفة بالوعود الكاذبة أمام وضع اقتصادي واجتماعي يسوء يوما بعد يوم.. “لو كانت بدها تشتي، كانت غيّمت” كما يقول المثل الشامي.
هل ضعف إسلام التونسيين فجأة بعد أن منح قسم كبير منهم أصواته لحركة النهضة، وبرز الإسلام السياسي بجميع أطيافه وتعبيراته، حتى صارت تونس تعرف تهكما بـ"تونستان"
وهكذا أدار التونسيون ظهورهم إلى الذين قدموا أنفسهم في الأمس القريب كمخلصين، بنفس الحماسة التي أقبلوا فيها عليهم بل ودعوا إلى محاسبتهم وزج بعض قيادييهم في السجون التي كانوا يقبعون فيها أيام حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
شيء ما قد حدث، وإلا فما الذي جعل الناس الذين كانوا يتقبلون، ولو على مضض، طريقة استقبال أنصار الغنوشي لزعيمهم في المطار بأهزوجة “طلع البدر علينا”، يدعون اليوم إلى محاسبته ويحملونه كل تبعات ما شهدته تونس من مشاكل وتحولها إلى بؤرة توتر لم تعرفها البلاد في تاريخها.
ما الذي يجري؟ هل ضعف إسلام التونسيين فجأة بعد أن منح قسم كبير منهم أصواته لحركة النهضة، وبرز الإسلام السياسي بجميع أطيافه وتعبيراته، حتى صارت تونس تعرف تهكما بـ“تونستان”.
الحقيقة التي لا تقبل التشكيك لدى جميع من يعرف التونسيين عن قرب، هو أن حملة الأسلمة التي شهدتها البلاد أول وصول الإخوان إلى الحكم، قد استقوت بالمظلومية التاريخية المزعومة، وسط مناخ إقليمي ودولي مشجع، بالإضافة إلى المال السياسي الذي تدفق من كل حدب وصوب، وساهم في شراء الذمم وتجنيد أصحاب النفوس الضعيفة.
أما السبب الذي يبدو خفيّا وعصيّا على التشخيص في نظر المراقبين، فهو المزاج التونسي الميال إلى المغامرة والتجريب، إذ تعامل مع الظاهرة الإسلامية كموضة لها “نجومها” في العالم، فأراد تيار في الوسط الشبابي خوضها بعد سنوات الاستلاب والضياع والتهميش.. ألم تكن الشيوعية بدورها، موضة العصر في سبعينات وثمانينات وحتى منتصف القرن الماضي، وسافر قسم من الشباب التونسي إلى مناطق الصراعات في لبنان على وجه الخصوص، ملتحقا بالفصائل الفلسطينية اليسارية.
انتهت الفورة إذن مثل أي تقليعة شبابية سادت ثم بادت، وها هو “الدرّ يعود إلى مكمنه” كما يقال، بعد سنوات التيه والضياع، وتنتصر المدرسة البورقيبية التي استثمرت في الإنسان وراهنت على التعليم والثقافة لدخول نادي الحداثة والتحصّن من التطرف والسقوط في الرجعية والظلامية.
ولأن التونسيين لا يلدغون من جحور الإخوان ثلاث مرات، ولأن الخطاب الديني المسيّس لا يطعم خبزا، فقد بينت استطلاعات الرأي الأخيرة رفض الشعب التونسي للتيارات الإسلامية وانهيار شعبيتها وفقدان الثقة فيها مدركا بالحجة والبرهان، أنها تستعمل الخطاب الديني للتغطية على أغراضها السياسية والسلطوية خاصة بعد أن انكشف تورطها في ملفات الإرهاب والتهريب والاغتيالات السياسية والفساد المالي.
كل هذا جاء بالتزامن مع شبه عزلة دولية أدت إلى تجفيف المنابع، وقطع جسور الدعم والتأييد التي لولاها لما قويت شوكة الإخوان في مجتمع مرشح لأن يكون أقرب شعوب المنطقة تقبلا للعلمانية والدولة المدنية على الرغم من إسلامه الشعبي (الفلكلوري) ومخزونه الصوفي اللذين ربما لعبا دور المفرمل من التطرف والحامي للقيم الكونية.
وفي هذا الصدد، قال الباحث فريد العليبي إن الإسلام السياسي في تونس كان مرتبطا بقوى إقليمية ودولية وراكم قوته على مسار السنين من خلال دعمها وليس عبر قوة ذاتية أو دعم محلي، وقد فهمت هذه القوى أن الإسلام السياسي انتهى، فرفعت يدها عنه مما أدى إلى ضعف حركة النهضة التي بدأت بالانقسام والتشظي.
هذا البناء المتداعي كان آيلا للسقوط قبل أن يبادر الرئيس قيس سعيد إلى قراره بتجميد البرلمان وحل الحكومة حين فاض الكأس، وفي مبادرة لم تكن سوى استجابة لما تسعى إليه المجموعة الوطنية.
لسان حال قيادات حركة النهضة يقول وهو ينظر إلى هذه الحشود الهائلة من الواقفين خلف الرئيس: كان من المفترض أن يكون هؤلاء معنا، فلماذا انفضوا عنا بل ويطالبون بمحاكمتنا.. لا بد أن في الأمر سرّا
ألم يكن شعار الرجل “الشعب يريد” في انتخابات 2019 التي دخلها دون حزب، وخاضها متسلحا بعزيمة حشود هائلة من الشباب الذين كانوا بالأصل، هدفا ومطمعا لحركة النهضة في احتوائه، ولكن هيهات.. فهؤلاء الشباب وجدوا خيارهم وبديلهم السياسي في هذا الرجل الذي أثبت صدقيته في نفاد صبره من الإخوان وحلفائهم في الحكومة وبعض الأحزاب الانتهازية، وكذلك الجهات المتخفية وراء المطالب الحقوقية.
لسان حال قيادات حركة النهضة يقول وهو ينظر إلى هذه الحشود الهائلة من الواقفين خلف الرئيس: كان من المفترض أن يكون هؤلاء معنا، فلماذا انفضوا عنا بل ويطالبون بمحاكمتنا.. لا بد أن في الأمر سرّا.
السر يكمن ببساطة، في أن حساباتهم كانت مغلوطة لأنها بنيت على باطل، ولأن هذا “الشعب النزق” قد منحته تجربته المرة مع حكم الإخوان بوصلة لا يمكن لها أن تضيع الطريق. ولو كان هذا الشعب “ملولا” بالتوصيف المرضي لما منح ثقته لرجل ائتمنه الناس على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية دون خوف أو تذمّر.
لماذا لم ينتفض الحقوقيون ضد قيس سعيد ويبدون قلقهم من التأخير في تشكيل حكومة، ذلك لأن لهم الثقة في شخصه. ولماذا لا يعترض المتدينون على تضييق الخناق ضد جماعة تريد أن تحكم باسم الإسلام، ذلك لأنهم يمتلكون بديلا أنفع عند الله والعباد، يتمثل في الإسلام الشعبي البريء والتراث الصوفي الذي تزخر به البلاد ويعيد لها توازنها الروحي، خصوصا وأن الزوايا والجمعيات الصوفية تعرضت للتخريب والتضييق من طرف الإخوان وحلفائهم من السلفيين.
لن يحن التونسيون إلى فترة حكم الإخوان لأن الطيور إن هجرت لا تعود إلى أقفاصها أبدا.