يوسف السعدي يكتب لـ(اليوم الثامن):
الخالدون الذين لا يموتون
النجف الاشرف حزين يذرف دموع الحداد على رحيل عالم من علمائه، ترك وراءه سفرا خالدا من الذكريات والمواقف الشامخة، التي عزت على الكثيرين.. رحل المرجع محمد سعيد الحكيم، فبكاه طلاب درسه وحواشي كتبه، وشدت أسراب الفقد رحلتها في ازقة المدينة القديمة، حزنا على ثلمة كبيرة تتضح في عيون المحبين..
كيف لا وهو الشامخ في الاعين، الراسخ في التحدي، الرابض في ميدان المواجهة، والثابت في مضمار المطاولة، هو القادم من عاصمة أمير المؤمنين والثابت على نهجة حتى لقاء الموالاة الأخير.
صاحب سيرة عطرة حتى وفاته، ونابغة من نعومة اظفاره، ووارث خصال والده وأجداده الشخصية والعلمية، بانت مكانته العلمية من خلال تكليفه من الامام محسن الحكيم (قدس) بمراجعة مستمسك العروة الوثقى قبل الطباعة.. موسوعة علمية حياته زاخرة بالفكر، ومقارعة الظروف الفريدة التي عاصرها طيلة عمره الشريف.
كان ناشطا في محافل النجف الثقافية والفكرية والعلمية، شجرة عطاء فكري لهذا المرجع الفريد في نبوغه وموسوعيته، فأهلته لأن يكون موضع ثناء وتقدير من العلماء الاعلام، لأنهم تنبهوا لما يملكه من خصال فريدة، واهلية علمية مميزة وضعته محل اهتمام وتقدير كبيرين، مقارنة بعمره المبكر.. كان يواجه الظروف الصعبة بصبر ورضى، وقناعة راسخة بنهج آل البيت (عليهم وآلهم السلام).
هذا الخزين العلمي مكنه، من مواجهة التيارات الدخيلة، التي كان هدفها تدمير المجتمع، وإبعاده عن الدين الإسلامي الحنيف، ومواجهة حزب البعث بشجاعة وقوة، فظهر التحدي الواضح للسلطة، من خلال سيره في زيارة الاربعين خلال انتفاضة صفر عام 1977، فكان من اوائل المطلوبين، ورغم ازدياد الحملة البعثية على حوزة لم يغادر العراق.
عندما اعتقل لرفضة تأييد النظام في حربه ضد إيران، حول السجن فرصة لكسب رضى ربه، من خلال اقامته محاضرات دينية وتفسير القران، ومن اجل الربط على قلوب السجناء قال مقولته الشهيرة" لو لم يكن من فائدة لمحنتنا إلا التخفيف عن هؤلاء السجناء لكفى" ولأنه رفض الانسياق في ركب السلطة، منع من نشر أي كتاب او مؤلف، او امامة ملتقى علمي او تدريس الطلبة.
لكن هذا الحصار لمن يمنعه، من القيام بدوره، في دعم الحوزة ورعاية عوائل الشهداء والسجناء، وارسال المبلغين سرا بعيدا عن اعين النظام، بل قاوم كل ضغوط من اجل تأييد النظام.
اهتم المرجع الراحل بتقوية علاقة الحوزة بالمجتمع، وحفظ أصالة الفكر الشيعي من السطحية، وكان يدعوا للتمسك باهل البيت وجعلهم اسوه، فكان حاضرا في قضايا الامة، وضمير الاسلام في كل مكان، فبقيت توجيهاته ورسائله، الى مجتمعات وقادته قناديل مضيئة، تمثل منهج الإسلام ودور مدرسة أهل البيت في تقويم واصلاح المجتمعات الاسلامية، منهجا وسلوكا وفكرا قويما.
انتصر لقضايا الأمة ولنهج أهل البيت، وحذر من خطر الفكر المنحرف، والانظمة القمعية التي حاربت الاسلام، ومنهج اهل البيت بشكل الخاص، ترك كنوز من مؤلفات التي كانت معين لدارسين،
رحل المرجع الكبير، لكن الخالدون لا يموتون حين يرحلون، بل تعبق بذكراهم كل الأمكنة التي مروا بها، او التي تركوا بها آثارهم الفكرية والعلمية، وينتشر بها قداح شواخصهم، وتفوح المحطات بشذى عطائهم الدائم.
ترك في جبين الزمن عطرا من مواقف مضيئة، وعلوم فذة، ومواقف لم تنكسر فيها رماح مواجهة الجلادين والمستكبرين، فسلام على الملتزم بمنهج علي في العدل، المغترف من معينة في العلم، والثابت في ميادين المواجهة، والملتحق بقافلة المواليين، السلام على من عاش حيا شهيدا، ورحل مواليا سعيدا.
هذه المسيرة المعطرة، التي كتبت سطورها، بالعلم والجهاد ورفعة الدين والمذهب، ورعاية وخدمة الانسان، كانت تستحق هذه النهاية المباركة، بأن تكون في يوم استشهاد الامام زين العابدين، الذي اهتم الذي قضايا حياته الشريفة في حفظ الدين، ورعاية الأنسان